الدكتور ماهر الجعبري – عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير - فلسطين
 
منذ عقود والساحة الفلسطينية تشهد حراكا سياسيا متعدد الأطراف، وبعد أن كان هنالك تفريق واضح ومفاصلة بين الحراك السياسي المرفوض والحراك المطلوب، اليوم تتمازج الخطوط والألوان نتيجة الماكينة الإعلامية التي تعمل على ترقيع الصورة المهترئة للأنظمة العربية، وتعمل على تبرير برامج الانبطاح أمام المشروعات الغربية والتعالي "الإسرائيلي"، ونتيجة انخراط فصائل وتيارات في ذلك الحراك الرسمي، حتى أصبحت مرتهنة ضمن حدوده، وبالتالي تساهم في تمرير تلك البرامج الغربية عن وعي أو بدون وعي.
 
ولهذا لا بد من تنخيل تلك الأصناف من الحراك السياسي، للحفاظ على حالة التمايز ما بين مشروع الأمة التحرري ومشروع الغرب الانهزامي، وحتى لا تمرر الحلول التصفوية للقضية الفلسطينية من خلال ذلك الخلط المقصود، وحتى لا تبق الأمة متعلقة بحبال من الوهم.
 
يقرر المتابعون السياسيون أن حقيقة أهداف دولة الاحتلال اليهودي في استجاباتها لأي تحريك "للعملية السلمية" ليست سوى مناورات لكسب الوقت، وأنها تأتي في سياق التظاهر بالحراك نحو الحل وضمن حملة العلاقات الدولية، بينما تستثمر ذلك الحراك الكاذب للحصول على مزيد من التنازلات العربية، كي تصل إلى تطبيع اقتصادي يفتح لها الأسواق العربية، وتستثمر الوقت لفرض الأمر الواقع في القدس وفي بقية الضفة الغربية.
 
ومن هنا، يزداد تأكيد فشل الحراك السياسي الأمريكي ومعه الأوروبي ويتبعهما الروسي، الذي لا يفلح في معالجة هذا الموقف "الإسرائيلي"، ولهذا ظلت اللجنة الرباعية تراوح مكانها، وتقادمت خارطة الطريق، بل وزالت معالم الطريق من الطريق، ولم يبق إلا إفرازاتها الأمنية منثورة في طريق أدى إلى إسالة دماء المسلمين.
 
وبالطبع ثبت أيضا فشل الحراك السياسي للنظام العربي الرسمي، بصورتيه: الممانعة والمنبطحة، فهو لا يتحرك إلا بإشارة من أمريكا، وحتى إن بادر للتحرك خشية من مخاطر الغليان الشعبي، فلا يكون منه إلا حراك تابع للحراك الأمريكي، ولا يمكن أن يخرج عن حدوده.
 
أما الأنظمة الأخرى في بلاد العجم من المسلمين فهي تكتفي بمراسم منظمة المؤتمر الإسلامي الشكلية واجتماعاتها الباهتة، كلما دعتها. وخارج تلك الشكليات، فهي تغط في سبات عميق، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، ولا تصدر عنها إلا السيئات، من مثل ما يرتبط بأعمال التطبيع بين الحين والآخر، مثل اللقاء التطبيعي بين الرئيس الباكستاني السابق برويز مشرف ورئيس كيان الاحتلال اليهودي بيرس. ويخرج عن هذا السبات الأعجمي حراك تركي، وآخر إيراني.
 
أما الحراك الإيراني فهو مشهور بالصراخ في اللقاءات الحاشدة والتهديد بالموت لإسرائيل، والموت لأمريكا، بينما هو منشغل في عرض خدماته لإخراج أمريكا من مآزقها في أفغانستان شماله وفي العراق جنوبه. وبينما تهدده "إسرائيل"، وتحرّض عليه في المحافل الدولية، لا يزيد على الصراخ إلا مزيدا من الصراخ.
 
وأما الحراك التركي فهو حراك عرّاب ذي وجهين، فهو يعمل من جهة على الظهور بمظهر المتحدي (إعلاميا) لإسرائيل، مع التغنّي بأمجاد العثمانيين، لخدمة المناسبات الانتخابية لحزب العدالة والتنمية، بينما يحافظ على علاقات متينة مع كيان الاحتلال اليهودي، تترجم بشكل واضح في تعاون عسكري فاضح. ويعمل –في الواقع- على ترويج ثقافة التطبيع بين الاحتلال والأنظمة العربية، بعدما أصبحت ثقافة راسخة لديه، لا تزيلها غضبات أردوغان المفتعلة، ولا إخراج المشاهد الإعلامية التي تخدم مصالح حزبه الانتخابية، ليعود -من بعدها- ويؤكد أن العلاقة مع إسرائيل راسخة ثابتة، وليحقق مصالح أمريكا.
 
إذاً، فنحن أمام حراك سياسي رسمي متعدد اللغات لكنه مجمع على صفة واحدة وهي الخديعة، واللهث خلف أمريكا التي لم تُجدِ محاولاتها مع "إسرائيل" نفعا حتى اليوم.
 
وبينما تستمر الوفود واللقاءات والمؤتمرات، لا بد أن يتساءل المرء حول هذا العبث السياسي وذلك التضليل الإعلامي الذي يخضع له أهل فلسطين! وخصوصا أن بعض القيادات تقرّ وتصرّح أن ذاك الحراك هو مجرد "سراب جديد أمام الشعب الفلسطيني". ومن هنا يبرز السؤال المشروع: ما هو الحراك السياسي المطلوب للخروج من حالة الجمود والتقزيم الذي وصلت إليه قضية فلسطين ؟
 
بعد تنخيل ما تقدم من حراّك رسمي خادع، لا يتبقى على الساحة السياسية مما يمكن أن يخرج عن ذلك السياق، إذا وجد الإخلاص وتوفرت الإرادة، إلا حراك التنظيمات وحراك الأحزاب والتيارات السياسية غير الرسمية في الأمة، وحراك الشعوب الإسلامية. فما هو المطلوب من هذه التصنيفات من الحراك السياسي ؟
 
لا شك أن المطلوب من حراك الفصائل الفلسطينية أن تتوقف عن حالة الصدام والتصارع الداخلي على سلطة هزيلة، وأن تلتصق بمفهوم التحرير الكامل لكل فلسطين، وأن تدرك أن تحركات الأنظمة العربية والغربية لا يمكن أن تؤدي إلا إلى مزيد من التقزيم لقضية فلسطين، ومن ثم أن تتمايز عنها، وأن تدبر عن كل مفاعيل المبادرات الرسمية لأنها لا يمكن أن تتجاوز سقف ما كان مرفوضا من كل الفصائل الفلسطينية عندما أنشئت.
 
 وبالتالي فيجب أن يتطور خطابها باتجاه الأمة لتحميلها مسؤولية التحرير ومسؤولية التحرّك، وأن تبتعد عن قصور الحكام ومؤتمراتهم لأن كل زيارة لتلك القصور مربوطة بتهاو جديد بالمفاهيم، واقتراب أكبر نحو الحلول الاستسلامية.
 
أما أحزاب الأمة المخلصة في بلاد المسلمين، فهي تتحمل المسؤولية الكبرى في إيجاد زخم سياسي عام في الأمة يؤدي إلى توسيع الهوة بين الحاكم والمحكوم في بلاد المسلمين، ويؤدي إلى ترسيخ الرأي العام بأن هذه الأنظمة لا تستحق أدنى ثقة من الأمة.
 
إذاً، مطلوب من كل حزب مخلص أن يعمل سياسيا وفكريا على تركيز حالة المفاصلة بين الأنظمة وشعوبها، حتى تتمكن الأمة من خلع هؤلاء الحكام، وإحداث التغيير الجذري، الذي يغيّر معادلات العلاقة مع كل محتل، من خطاب سياسي استجدائي إلى خطاب استعلائي يتبعه تحريك الجيوش، كخطاب الرشيد: الجواب ما ترى لا ما تسمع.
 
وبالطبع هذا يتطلب حراكا كفاحيا ضد هذه الأنظمة، لا حراكا تصالحيا معها يردم الهوة معها بدل أن يوسّعها. وهذا يتطلب وجود علماء لا يخشون في الله لومة لائم، لا علماء سلاطين لا يرفعون رؤوسهم أمام الحاكم، إلا لحمده وشكره.
 
ولا يمكن للأحزاب المخلصة أن تتحرك إلا في الأمة ومعها، من ثم فإن الشعوب هي الحاضنة للحراك السياسي المطلوب الذي تقوم به تلك الأحزاب المخلصة، بل هي الحارس الأمين لمشروع الأمة التغييري، وبدونها لا يمكن أن ينجح أي حراك في الوصول إلى غايته. ومن هنا فلا بد من استثمار حالة الصراع على عقول وقلوب الأمة ما بين حملة مفاهيم التغيير الجذري وحملة مشاريع المهادنة، التي تسعى الدول الغربية إلى دفعها من خلال برامجها السياسية والتنموية.
 
وخلاصة القول أن كل تلك التصنيفات من ميادين الحراك السياسي الرسمي وأشكالها من مؤتمرات ومبادرات ولقاءات ووفود ما هي إلا عبث سياسي لن يسهم في التقدم بالقضية قيد أنملة. فالحراك الغربي وما يتبعه من حراك، هو استمرار للمؤامرة التي بدأت بإسقاط الخلافة في استانبول، التي رفضت أن تجعل لليهود موطئ قدم على تراب فلسطين، والحراك "الإسرائيلي" كاذب لكسب الوقت ولمجاراة الضغط الأمريكي، وليس ثمة من حراك إلا ما يجب على الأمة أن تقوم به برجالها وأحزابها المخلصة لتغيير قواعد العمل السياسي وتغيير المنظور السياسي لقضية فلسطين، واستعادة الخطاب الاستعلائي الذي يتبعه تحريك الجيوش، لا تحريك الوفود.