الانتخابات... وأوهام التغيير

)التغيير من خارج الصندوق(

بقلم: يوسف أبو زر*

لم يصادر الغرب فقط مقدرات الأمة ويتسلط على شعوبها من خلال حكامها، بل إنه صادر حتى تفكيرها بالتغيير عندما بدأ يرى تململها وتحركها نحو التغيير، وذلك حين أوحى لها -تضليلا-  بأن التغيير ليس له إلا أسلوب واحد وهو الانتخابات التي تضع الأنظمة الحاكمة قواعدها وتدير لعبتها، وأنه لا إمكانية للتغيير إلا بالصندوق -الذي يملك مفاتيحه- وما ذلك إلا ليتمكن الغرب من حشر كل محاولات التغيير في ذلك الصندوق.

      لقد صُورت الانتخابات على أنها البلسم الشافي ومفتاح التغيير لكل بؤس، وصارت كلمة  "انتخابات"  مع طول الحرمان منها كلمة شديدة الجاذبية للأجيال الشابة، مع أن التجارب عبر العقود الماضية تنطق بخلاف ذلك، سواء في فلسطين أو في المنطقة العربية عموما، ولعل  المقاربة الأكثر التصاقا بالانتخابات الفلسطينية ليست هي الانتخابات الألمانية أو البريطانية بل هي عشرات من تجارب الانتخابات التي وقعت في البلاد العربية، حيث لم تنتج نموا ولا تنمية ولا تقدما ولا تغييرا،  ولم تقلل من الدكتاتورية وإنما زادتها توحشا عندما صارت "ديكتاتورية منتخبة"، وبالمناسبة فإن بشار الأسد رئيس منتخب وبرلمان السيسي كذلك.

    على عكس المطلوب تماما، و في حالة عجيبة من الاعتراف بالباطل وقواعده كشرط لنقاشه  والانضواء تحت منظومته كمتطلب لتغييرها كما زُعم،  فإن التغيير الوحيد الذي نتج من  التجارب الانتخابية في البلاد العربية وخاصة تلك التي كانت بعد الثورات هو التغير للأسوأ  في القوى السياسية، وخاصة "الإسلامية"  منها وذلك عندما خلعت رداءها على أعتاب البرلمان، وقذفت بشعاراتها السابقة بعيدا مثل شعار "الإسلام هو الحل"، بل وغيرت من أسماء كتلها البرلمانية لتتناسب مع معايير "ديمقراطية المرحلة" والذوق الدولي، حتى رأينا "حركة إسلامية" تصوت على ضريبة الخمور، كما رأينا "حركة إسلامية" على رأس الحكومة -كما في المغرب- تمارس "التطبيع"  وتدافع عنه، وليس بعيدا عن ذلك ما جاء في التعهدات التي التزمت بها المنظمة والفصائل كأساس للانتخابات الفلسطينية والتي أرسلت للإدارة الأمريكية عبر السلطة، فما كانوا بمشاركاتهم في تلك الانتخابات إلا شهودا للزور في مجالس الزور.

   إن التصور بأن الانتخابات هي الأسلوب الوحيد للتغير هو تصور خاطئ بلا شك، و ذلك أن التغيير هو سنة من سنن المجتمعات التي لم تتوقف يوما عبر التاريخ، وجدت الانتخابات أم لم توجد، وهو عملية دائمة تقتضي تغيير المفاهيم والأفكار وإيجاد الوعي والوعي العام، وتقتضي محاسبة السلطات في تقصيرها وفضحها في فسادها والتصدي لها في إفسادها، وكشف التآمر والتفريط في سياساتها، وكذلك تبني مصالح الناس، وهذا حق وواجب، في البرلمان أو خارجه، وكل ذلك له أساليب ووسائل منها حشد الشارع وصناعة الرأي العام وهو الأفعل، خصوصا عندما يكون البرلمان خاتم السلطان ودمغة الباطل كما سلف، ولعل هذا ما تخشاه الأنظمة وترضخ له أكثر من أي شيء آخر، ولا نبالغ إن قلنا أن العمل من خارج  "منظومات السيطرة" هو أكثر ما يرعب الأنظمة ويخيف من هو خلفها من القوى الكبرى، وخاصة إن كان التغيير جذريا لا شكليا، ولم يسجل لنا التاريخ  تغييرا حقيقيا تم من خلال تسهيلات المنظومة القديمة وإدارتها وترتيباتها.

  إن من لا يتصور التغيير أو العمل السياسي إلا على مقاعد البرلمانات أو المجالس التشريعية ليس سياسيا وليس جادا كذلك، فالتغيير ليس فرصة لمرة واحدة كل بضعة سنوات ريثما تسمح الظروف، تلك الفرصة التي قد تؤجل أو تلغى حتى، وإنما هو عمل يومي في الميدان وفي الشارع قبل البرلمان، وفي المفاهيم قبل القوانين، فالعمل السياسي أكبر من أن يحشر في مجلس تشريعي، والقوى التي تحترم نفسها  لا ترضى بأن تقزم في صندوق، وها هو حزب التحرير مثلا يمارس العمل السياسي على أساس الإسلام، فيحمل دعوته ويتصدى للقضايا  دون أن يحشر نفسه تحت سقف الواقع وبين جدران البرلمان، وقد كانت في فلسطين كذلك حراكات وتحركات، تصدت لتغول السلطة وإفسادها وظلمها، ونصر فيها الأحرار من أهل فلسطين  قضايا محقة تمس معيشتهم كقضية الضمان، وتمس دينهم وأعراضهم كقوانين سيداو، وتمس أرضهم كوقف تميم في الخليل، وكل ذلك في الميدان حيث لا مجالس تشريعية و لا برلمانات.

 وأخيرا، فإن المسألة الأكثر أهمية من أساليب التغيير هو الأساس الذي يقوم عليه التغيير، والفكرة التي يراد تطبيقها، وبالنسبة للمسلمين فإن التغيير المطلوب هو واحد لا غير، و هو التغيير الذي يقوم على أساس الإسلام، ليقام فيه دين الله ويسود شرعه وتستأنف فيه الحياة الإسلامية، حيث لا ظلم ولا فساد، ولا احتلال ولا استبداد ، وحيث الانتخابات بيعة من الأمة لمن يحكم بكتاب الله أو لمجلس أمة يحاسب الحاكم على أساس شرع الله، والحاضنة لكل ذلك هي دولة الإسلام، دولة الخلافة التي تتهيأ الدنيا لقيامها، والتي  قد مضى على زوالها نحو مئة عام لم ير المسلمون فيها من دولة التجزئة القطرية وبرلماناتها إلا ذلا وتبعية وتعطيلا لشرع الله واستبدالا لأحكامه، ولذلك فإنه لم يعد أمام الأمة متسع للتجارب ولا مكان للخطى على غير الطريق المستقيم، وكل خطوة في الإتجاه الخاطئ لا تزيد أصحابها عن النهضة والتحرير والتغيير إلا بعداً، قال تعالى (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) 153 الأنعام.

 

*عضو المكتب الاعلامي لحزب التحرير في الارض المباركة فلسطين