الدكتور ماهر الجعبري

عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير- فلسطين

إذا كانت الدولة الفلسطينية في حدود عام 67 هي مطلب حكومة غزة كما هي مسعى حكومة رام الله، وإذا كان المشروع الأمريكي، والحل الأمريكي والسعي الأمريكي هو ما تلتقي على تأييده الحكومتان، فعلى ماذا تتصارعان ولماذا كان الانشطار السلطوي ؟

سؤال يلحّ على الذهن لدى الإصغاء لتصريحات رئيس حكومة غزة في مؤتمره الصحفي مع الرئيس الأمريكي الأسبق كارتر يوم الثلاثاء 16/6/2009، وهو يفصح أنه "يدعم قيام دولة فلسطينية في الأراضي التي احتلتها (إسرائيل) عام 1967"، كما ورد على العربية نت. بل واعتبر ذلك حلما في قوله: "ندفع باتجاه تحقيق هذا الحلم الوطني الفلسطيني لإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس".

وبالطبع، بإمكان المنظرين من رجالات السلطة الفلسطينية في غزة أن يجادلوا بأن ذلك لا يتضمن الاعتراف باحتلال فلسطين عام 1948، وبإمكانهم أن يستدلوا بفقه الواقع الأليم، وبموازنة مفاسد الاقتتال الداخلي مع مصالح تقاسم سلطة فلسطينية بين الأشقاء، وبإمكانهم أن يقولوا أن الدولة الفلسطينية-الحلم- هي محطة على طريق التحرير الكامل لفلسطين، وأنهم مجبرون على هذا النهج من العلاقات العامة لفك الحصار عن غزة بعد أن عانت الأمرّين وبعد أن تخلّى عنها الأشقاء, وأن الهدنة لعشر سنوات أو لمئة سنة هي استراحة محارب، حتى ولو تمخضت عن سبات ميّت.

ولكنّ ما ليس بإمكانهم هو أن يشرحوا لأتباعهم ما الفرق بين دايتون الذي يضبط إيقاع السلطة الفلسطينية في رام الله على أنغام خارطة الطريق، وما بين كارتر الذين يدرّب السلطة الفلسطينية الأخرى في غزة على الرقص على أنغام تلك الخريطة بجلباب شرعي ؟

وما ليس بإمكانهم هو أن يشرحوا ما الفرق بين اليوم والأمس ؟ فإذا كانت نهاية مطاف الصراع مع المحتل و"الحلم" الفلسطيني هو ما عُرض على السادات في كامب ديفيد، فلماذا هذه المسيرة المضنية من المقاومة والقتل والتشريد والدمار والحصار والاقتتال الداخلي ؟

مما لا شك فيه أن هذا زحف سياسي واضح نحو حل الدولتين لا يحتمل التأويل. ومن المعروف بداهة أن الدولة المجاورة لهذه الدولة المنشودة أو "الحلم"، والدولة التي سيتم توقيع اتفاقية تحقيق ذلك "الحلم" معها هي دولة "إسرائيل"، ولا شك أن التحدث عن "حل القضية الفلسطينية" يعني إنهاء حالة الصراع مع هذه الدولة، وإلا فلا حل سياسي. وبالتالي ماذا تبقى من معاني عدم الاعتراف بإسرائيل في هكذا حل ؟ فهذه كلمات واضحة، ودلالات قاطعة تكشف مشروع السلطة الفلسطينية في غزة، وتضع قادتها في نفس الخانة التي وضع قادة الحكومة التركية أنسفهم فيها، وهم يحملون العلمانية بالشمال، وشيئا من الإسلام باليمين.

كان المنشدون "الإسلاميون" يغردون صباح مساء:
لا تحلم بالحل السلمي انس الأوهام .... في الكون ذئاب ونسور ما فيه حمام
اليوم لا بد أن يضيف المنشدون استثناءات لتلك الأهازيج: لا تحلّم بالحلم السلمي إلا إذا حلم به القادة والرموز، الذين ضحوا بأبنائهم واستشهد رفقاؤهم على طريقهم، فللدم ثمن، ولا بد من أن يستثمر في تحقيق منجزات على الأرض، أي أرض. وخصوصا وهم يلاحظون أن كارتر قد تحوّل إلى حمامة ترفرف على أطلال غزة المدمرة.

لقد نجح كارتر في أن يبدأ مسيرة الاعتراف العربي الرسمي بدولة "إسرائيل"، وهو اليوم ينشط في تحريك مسيرة الاعتراف الفلسطيني بالثوب الإسلامي. ومسيرات الترويض طويلة وشائكة ومتعددة، ولكنها كلها متشابهة من حيث المراحل: تبدأ باللاءات وتنتهي بالاعترافات ! وهي مسيرة كل الحكومات طالما أنها تحتكم لعلاقات المجتمع الدولي، وطالما أنها تعتاش من تمويل تلك الدول الغربية.

لقد مرّت سنوات طوال على مقتل السادات على يد خالد الإسلامبولي، وظلّت أدبيات الإسلام السياسي تترحم على الإسلامبولي، وتتهجم على نهج السادات. اليوم لا بد أن يحار أتباع تلك الشخصيات الإسلامية، التي تعتبر الدولة الفلسطينية في حدود 67 حلما، في ترحمهم على من يكون ؟ هل يترحمون على السادات أم على الإسلامبولي ؟

ويبدو أنه لن يكون بعيدا أن نسمع من أقطاب سلطة غزة مستقبلا أن يقولوا أن السادات كان بعيد النظر! وإلا فكيف يلتقون كارتر الذي ورّط السادات في مسيرة الاعتراف بدولة "إسرائيل" ؟ وسيكون لهم في مسيرة رجالات الحكم في تركيا نموذج يُحتذى من الزحف باسم الإسلام نحو علاقات مع دولة الاحتلال.
ولقد دار جدل طويل حول اهتراء منظمة التحرير الفلسطينية وحول دورها وحول مشروعية تمثيلها والتمثيل فيها، وحول الحاجة إلى جبهة مقاومة جديدة ... اليوم لا بد من التساؤل: لماذا كان كل ذلك الجدل طالما أن الدولة الفلسطينية قابلة للتحقيق عبر فرص جادة للسلام ؟ فمنظمة التحرير الفلسطينية لم تأل جهدا في اللهث وراء ذلك الحل. ولعل قادة المنظمة اليوم بحاجة إلى اعتذار من قادة حكومة غزة على ما كالوا لهم من اتهامات طالما أن المشروع واحد والسعي واحد !

ولعل قادة حكومة رام الله يطالبون بمراجعة أحقية حكومة غزة بالتفاخر بمشروع المقاومة أمام مشروع المفاوضات، ومراجعة الاتهامات التي وجهتها حكومة غزة لهم، حيث يلتقي المشروعان اليوم في ثنايا كلمات رئيس حكومة غزة: "أوضحنا للسيد الرئيس إننا في الحكومة الفلسطينية إذا كان هناك مشروع حقيقي يهدف إلى حل القضية الفلسطينية على أساس إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967 وبسيادة كاملة وحقوق فلسطينية كاملة، فنحن نرحب بذلك".

بكل تأكيد هنالك مشروع سياسي حقيقي لحل القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين ترعاه أمريكا منذ منتصف القرن الماضي، وطريقه المفاوضات. وهو مشروع جدّي جدا، وخصوصا هذه الأيام. إذاً، فماذا تبقى من مسافة للفصل بين حكومة غزة وحل الدولتين ؟ وبالتالي ما الذي يفصل غزة عن رام الله ؟ وخصوصا وكارتر يكرّم في رام الله بجائزة الإبداع ويستقبل في غزة استقبال الكرام، ويحمل رسائل أمريكا الترويضية لحكومة غزة.

لا شك أن أمريكا تعمل على تلميع صورتها أمام المسلمين، وعلى اجتذابهم نحوها وعلى تسخير سياسيين يرفعون شعار الإسلام لتحقيق مشاريعها. وعندما يقول رئيس حكومة غزة: "وجدنا لهجة جديدة ولغة جديدة وروحا جديدة في الخطاب الرسمي الأمريكي"، فإنه بكل تأكيد يتحدث كفلسطيني صاحب مشروع وطني منضبط بالشرعة الدولية، وإلا لو تحدث كصاحب مشروع إسلامي نهضوي رسالي لتذكّر الذين يسقطون تحت القصف الأمريكي في أفغانستان، ولتذكّر أن "الخطاب الرسمي الأمريكي" لا زال يدعو إلى حشد مزيد من القوات لأفغانستان، ولتذكّر أن قوات اوباما لا زالت تحتل أرض العراق.

"الثور فر من الحظيرة" مع نهاية السبعينات، بعد حرب عام 73، وكان كارتر هو عرّاب ذلك الفرار نحو السلام، فهل يتكرر المشهد اليوم؟ سؤال لا يبدو أن جوابه سيكون بعيدا في الزمن، مع هذا الزحف الترويضي الحثيث.

لا شك أن أهل فلسطين يدركون أن البون شاسع ما بين كل خطاب سياسي رسمي يغازل المجتمع الدولي وبين كل خطاب إسلامي يرفض الاحتلال على أي شبر من بلاد المسلمين. ولقد سقط كثيرون في مسيرة الترويض، وسيسقط آخرون إذا لم يستيقظوا.

16/6/2009