الدكتور ماهر الجعبري
هل أصحبت فلسطين شركة وطنية لفتح ويتوجب على كل المخلصين من أهلها الذين يرفضون نهج الاستخذاء الرحيل عن هذه الأرض المباركة لأن صبر فتح قد ينفد كما هدد الزعارير في مقاله الحصري لوكالة معا بتاريخ 12/5/2010 ؟
سؤال مؤلم، ويمكن أن يكون الجواب أكثر إيلاما في ظل واقع مخز، تزداد فداحته يوما بعد يوم.
لقد انبرى السيد فهمي الزعارير يدافع عن رئيس وزراء سلطة فتح الذي تنتقده رجالات أخرى في فتح مثل عزام الأحمد وتعتبره "دخيلا"، ومن ثم يهدد الزعارير بأن "هيبة فتح وقيادتها لم تعد موضع استهانة أو استخفاف أو اختبار"، بل ويتوعد الكتّاب الذين ينالون من فتح قائلا "فلا تختبرونا في هيبتنا".
بداية أود أن أقدم اعترافا خطيا أمام الزعارير بأنني واحد من الذين نالوا من هيبة فتح في مقالي بعنوان "فتح والغطاء السياسي للأجهزة الأمنية" في 1/1/2010، حيث قررت فيه بأن أتوقف عن استخدام تعبير "الشرفاء في فتح" في مقالاتي وفي حديثي، بعدما أصاب "رصاص فتح" جسم سيارتي التي كنت أقودها، ومن ثم حطّمَتْها رجالاتُ فتح "ببطولة!"، أتمنى أن أرى مثلها في مواجهة سيارة مستوطن يقرر أن يتبختر في الخليل، ولقد التزمت ذلك الموقف ولا زلت، بعدما سكتت رجالات فتح عن إنكار منطق العربدة، وتكتمت على فضيحتها.
ومن ثم نلت من هيبة رئيس وزرائها -الذي يدافع عنه الزعارير- في مقالي قبل أيام بعنوان "فياض إذ يحرف التاريخ ويبدل الجغرافيا".
ولذلك فإن تهديد الزعارير ووعيده يمسّني شخصيا، حتى وإن أراد من مقاله ذاك أن يوجّه رسائل داخلية للذين علت أصواتهم ينتقدون "نهج فتح" من داخل حركة فتح، بعدما تجاوزهم "المولد الأمريكي" وخرجوا منه "بدون حمّص"، وقد كرر الدكتور نبيل عمرو انتقاداته، بعد السيد فاروق القدومي، ولحق أبو العلاء قريع، بركب المنتقدين.
إن النَفَس الذي يتحدث به الزعارير يفسّر منطق "التقزّم" وقبول الانحناء من أبناء فتح أنفسهم أمام ما لا يرضون عنه في قرارة أنفسهم، ولعل مقاله هذا يوضّح لي جواب صديق قديم (فتحاوي) يعمل أستاذا في جامعة أخرى، عندما علّق على ما حصل معي قبل أشهر من بلطجة، بقوله: إن أمثالي يتعرضون لما تتعرض له.
إذاً، هل نحن أمام مرحلة جديدة من امتداد الكبت والتنكيل ليطال كل من يرفض مشروع فيّاض، في صحوه أو في منامه، حتى ولو كان ممن تغنّى بفتح يوما؟
فهذا التهديد واضح صارخ، وهو عزم ينمّ عن "قوة" تتقصّد "الإرهاب"، في الوقت الذي تتنصل فيه قيادات فتح من أي عمل "إرهابي" ضد الاحتلال الغاصب.
وهنا تبرز قائمة من التناقضات السياسية والثقافية التي تمخضت عن انقلاب حركة فتح وسلطتها على ثقافة الأمة وعلى مصالحها، مما يوجب توجيه الكلام الصريح المباشر من كل مخلص للزعارير وقياداته التي يتمجد بوعيها "الحركي والتاريخي":
لقد حولتم البنادق عن صدور الاحتلال إلى تهديد الناس الذين يرفضون الاعتراف بالاحتلال.
ولقد حولتم المناضلين إلى موظفين عند فيّاض.
ولقد تخاصمتم وتشاجرتم وتفاجرتم حول سلطة هزيلة تحت الاحتلال.
لقد زرعتم أحقادا في أهل فلسطين بعدما كانوا قد سطروا نماذج رائعة من البطولة والتلاحم قبل هذه السلطة الفلسطينية التائهة.
ولقد حولتم قضية فلسطين إلى مشروع ربحي للقيادات التي تحتكر حق الحديث باسم قضية لا تنتمي إليها.
لقد أوجدتم طبقة مرتزقة في أهل فلسطين تشكلت حسب اهتمامات المانحين قد يصعب إعادتها إلى حضن أمتها بعدما اهترأت فيها قيم التضحية أمام مصالح الاسترزاق.
لقد جعلتم التنسيق الأمني مع الاحتلال مشروعا وطنيا، بينما اعتبرتم مقاومة الاحتلال ورفض الاعتراف به تهديدا لذلك المشروع الأمني.
لقد قتلتم أبناءً من فلسطين في سجون نصبتموها تحت الاحتلال.
ولقد واجهتم بالرصاص الحي جنازة "شهيد" سقط لأنه رفض مؤتمر أنابوليس التطبيعي، وأسقطتم نعشه ورايات كتب عليها "لا إله إلا الله".
لقد حولتم الجامعات من منارات علم وإبداع ثقافي إلى أوكار تنصت على المخلصين من أبناء الأمة حتى عربد الطلاب "الأمنيّون" على أساتذتهم المستضعفين.  
لقد حولتم المساجد من معسكرات وعي تخرّج الأبطال إلى منابر سلطوية تبرر نهج التنازل عن فلسطين.
لقد فعلتم وفعلتم وفعلتم.
لقد اقترفتم آثاما عظاما مهلكة، دفعت بفتحاوي لأن يهمس في أذني قائلا: "لقد صرنا أسوأ من لحد".
فأي وعي حركي وتاريخي ذاك التي يتمجد به بعد هذا السقوط المدوي؟! وهل يمكن أن يكون ذاك الخطاب ثقافيا يحترم عقول الناس وقلوبهم؟ أم هو خطاب عربدة وزعرنة!
وبينما يطلّ رئيس تحرير وكالة معا مستحضرا ثقافته الإعلامية وجزالة ألفاظه التعبيرية، يقبل أن ينشر مثل ذلك المقال التهديدي، ومع ذلك فليس مستغربا أن يرفض نشر هذا المقال-كما لم ينشر مجموعة من سابقيه- لأنه يسيء إلى "النسيج الوطني" الذي يحبكه فياض.
فأي ثقافة تلك التي ينشرها إعلام يمجّد منطق التنازل ومنطق العربدة، ويصد الباب أمام منطق التمرد على هيمنة أمريكا ورجالاتها، وأمام منطق الاعتزاز بثقافة الأمة وتاريخها الحضاري ؟
وهنا أود أن أخط اعترافا جديدا أمام الزعارير بأنني استخف بكل قيادة تقبل أن تلهث خلف نتياهو وليبرمان وهما يهينانها صباح مساء، وأستخف بكل حركة ترتد عن مقاومة الاحتلال إلى استجداء التفاوض معه، وبالتالي قد يضيق صدره ذرعا بهذا الكاتب ويقرر أن يرسل له دورية في عتمة الليل.
وإذا كان من المتوجب عليّ أن أكتب وصيتي بعد مثل هذا المقال تمشيا مع تهديد الزعارير، فسألقنها لأبنائي مشافهة بأن الحياة موقف عزة في الدنيا وفوز بالآخرة، وأن زمن الدواجن الذي يتعايشون مع الاحتلال سيوليّ، وسيقف كل معربد أمام محاكم الأمة صاغرا مطأطئا رأسه من الخزي بعد أن لم يعتبر بمن سقط قبله.
14/5/2010