عبد الرحمن يوسف
لقد انتظر الناس رد فعل تركي يختلف عن ردود الفعل العربية, وكان الإعلام قد أوصل الناس الى صورة خيالية عن حكام تركيا الحاليين, بل وصل الأمر بأن أطلق عليهم لفظ العثمانيين الجدد. وصدّق الناس كعادتهم ما تروجه وسائل الإعلام، حيث تدعم ترويجها بالخطب النارية التي دأب على ترديدها رئيس الوزراء التركي أردوغان, والتي كان آخرها كلمته في مؤتمر القمة العربية التي انعقدت في ليبيا. كما أن بعض المثقفين والمحللين على شاشات بعض الفضائيات قد توقعوا ردا تركيا مختلفا عن المعهود من ردود العرب, وقالوا: إن الدولة في تركيا تختلف عنها عند العرب وأنها لا تحكم من قبل شخص يتفرد برأيه وأنها ... وأنها ... .
والسؤال المطروح هل صحيح أن حكام تركيا الحاليين هم في الحقيقة أحفاد العثمانيين؟
وهل يكفي التغني بأمجاد الدولة العثمانية ليستحق هؤلاء الحكام صفة الأحفاد لأولئك السلاطين العظام أمثال محمد الفاتح وسليمان القانوني وختاما عبدالحميد الثاني؟
لقد كانت الدولة العثمانية تفيض بالهيبة والعزة والكرامة والسؤدد, وكان الأسطول العثماني ملك البحار، وكان البحر الأبيض المتوسط بمثابة بحيرة للدولة العثمانية، لا يجري فيه شيء دون موافقة السلطنة, ولم تكن دول كبرى تستطيع التصرف في هذا البحر(حتى في الأمور التجارية) دون الرجوع الى الدولة العثمانية بل وأخذ الإذن منها. وقد يعلم القليل من الناس أن أمريكا (الولايات المتحده) كانت تدفع للدولة العثمانية مقابل السماح لسفنها التجارية وتوفير الحماية لها خلال مرورها في البحر الأبيض المتوسط نهاية القرن الثامن عشر, وأن المعاهدة الوحيدة التي كتبت بغير اللغة الانجليزية في تاريخ امريكا كانت باللغة التركية, وهي المعاهدة التي تضمنت دفع أمريكا للمال الى والي الجزائر وكانت زمن السلطان سليم الأول. هذا فضلا عما كانت تدفعه ممالك أوروبا من جزية للدولة العثمانية في معاهدات مماثلة. 
أما حكام تركيا اليوم فلم نلمس لهم أدنى حساب حتى على بعد أميال بسيطة من شواطئهم، ومن قبل دولة أقل ما يقال فيها أنها لا تملك مقومات الدولة, نعم هذه هي الحقيقة المرة، فلو كان يهود يحسبون أدنى حساب للدولة التركية لما تجرؤوا على قتل مواطنيها في عرض البحر وعلى ظهر سفينة تركية تسمى مرمرة. فهل هؤلاء يا ترى أحفاد العثمانيين؟
وقد يكون مفيدا ذكر صورة أخرى من صور العزة والسؤدد للدولة العثمانية, وهي قصة وقوع ملك فرنسا (فرانسوا الاول) في الأسر عند الألمان, وعندما لم يجد أركان الدولة الفرنسية وسيلة لتخليص ملكهم واستعصى الأمر على جيشهم, عندها توجهوا للسلطان العثماني في اسطنبول الذي استطاع تحرير ملكهم فورا ودون تسيير جيوش أو خوض حرب, بل بمجرد رسالة من السلطان سليمان بن السلطان سليم بن السلطان بايزيد حاكم الدولة المرهوبة الجانب في كل أنحاء اوروبا. فهل يصح وصف حكام تركيا اليوم بأنهم أحفاد العثمانيين؟
لقد جاءت مجزرة الأسطول لتضع النقاط على الحروف وتنهي الخداع الإعلامي الذي جرى تمريره على الناس مدة من الزمن, والناظر في رد الفعل التركي على المجزرة يصاب بخيبة أمل كبيرة حتى وإن كان ممن صدّقوا أن حكام تركيا اليوم هم أحفاد العثمانيين. إن صورة وزير الخارجية التركي وهو يهرول الى مجلس الأمن مطالبا باعتذار (اسرائيل) لا تزال تثير الإزدراء, وإن جلوسه في نيويورك يومين يفاوض على صدور بيان من مجلس الأمن هو في غاية المهانة.
فقد كان الأولى به وبرؤسائه أن يعقدوا مجلسا للحرب في اسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية ليكونوا أحفادا للعثمانيين بحق, ولكن أنّى لهم ذلك؟
أي ذل هذا الذي يقبله أولئك الحكام, وأي اعتذار سيفيد في قتل أشخاص مسلمين في سفينة للمسلمين تحملهم الى فلسطين المغتصبة؟ وأي عقاب هذا الذي سيلحقه أردوغان بيهود وقد كان بإمكان أسطوله أن يصل لنجدة سفينتهم قبل أن يفلت المجرمون من البحر وهم قادرون على ذلك؟ أين هم أحفاد من قاموا بفتح عمورية (انقرة) استجابة لاستغاثة امرأة من المسلمين وليس قتل العشرات منهم؟ .
 
قد يقول قائل: إن الدولة العثمانية كانت دولة قوية، إن لم تكن دولة عظمى، فوجب أن تختلف ردود الفعل. والجواب أن الدولة العثمانية في عهد السلطان عبدالحميد كانت في أضعف أيامها وأسوأ ظروفها، وحالة تركيا اليوم من الناحية المادية هي أفضل بكثير مما كانت عليه دولة الخلافة العثمانية زمن السلطان عبد الحميد, ولكن الفرق هو في الرجال, فالسلطان رحمه الله كان رجل دولة بكل معنى الكلمة، أما حكام تركيا اليوم فهم أشباه رجال.
وقد حق لكل من توسم فيهم خيرا وانخدع مدة من الوقت بأنهم أحفاد العثمانيين أو أنهم العثمانيون الجدد، حق لهؤلاء وغيرهم أن يقولو تمخض الجبل فولد فأرا.
نسأل الله القدير أن تكون عودة الخلافة قريبة جدا ليرى الناس كيف تتصرف الدول، وكيف يكون رجالها, وعندها سينسى الناس كل هؤلاء الرويبضات، وستذهب ذكراهم معهم الى مزبلة التاريخ.
 إنه سميع مجيب.