إبراهيم الشريف- عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
 
لقد مرت الأمة الإسلامية بحوادث زلزلتها زلزالاً، ولكنها ما لبثت أن استعادت توازنها وأعادت الكَرَّة على عدوها كما حصل تجاه التتار والصليبيين، والسبب أن المشكلة عند المسلمين لم تكن تمس الإسلام أو تصور تطبيق الإسلام، بل كانت ناتجة عن سوء تطبيق الإسلام مع الإدراك والتصور لهذا التطبيق، فرغم أن الولاة مثلاً كانوا يتصرفون في ولاياتهم كأنهم منفصلون بسبب صلاحياتهم الواسعة التي أدت إلى طمعهم واقتتالهم أحيانًا، إلا أنهم كانوا مرتبطين بالخلافة ولا يصير الواحد منهم واليًا إلا بموافقة ومباركة الخليفة، ولا يطبق أي واحد منهم قانونًا غير الإسلام مع وجود الثغرات والسقطات.
 
أما اليوم فإن الخطر داهم لأنه يتعلق بفهم المبدأ نفسه، فقد غزانا المستعمرون غزوًا أصاب منا الصميم وهو الغزو الفكري، فصار المسلمون يرتبطون بغير رابطة العقيدة مثل الرابطة الوطنية فتفرقوا إلى كيانات هزيلة تابعة للاستعمار تحكم بغير الإسلام، وصاروا بأغلبيتهم يستقون مفاهيمهم ومقاييسهم وأنظمتهم من الاشتراكية فلما اندحرت كفوا واتجهوا إلى الرأسمالية، ولا يتصورون حلاً لقضاياهم إلا من خلال الوطنيات أو القوميات مع إضفاء غطاء إسلامي مزيف عليها، فلا غضاضة لديهم من الدولة الوطنية ولا مشكلة عندهم في النظام الاقتصادي الرأسمالي ولا تثريب عليهم إن قالوا أن فلسطين للفلسطينيين وأنها قضية وطنية تخص الفلسطينيين وليست قضية أمة إسلامية!
 
وإذا أخذنا قضية فلسطين والتعامل معها كمثال على عدم تصور الواقع العملي للمفاهيم الإسلامية، نجد أن أهم حقيقة إسلامية متعلقة بها إما مغيبة وإما معطّلة، مغيبة بإحلال مفهوم مضلل بدلاً عنها ومعطلة بعدم تصور كيفية تطبيقها في ظل الواقع المأساوي الذي نعيش، وهذه الحقيقة هي أن قضية فلسطين قضية إسلامية بحتة، وليست وطنية أو وطنية إسلامية أو قومية أو إنسانية أو غير ذلك ..
 
قد يتفاجئ البعض ويقول: لم تأتنا بجديد كما قيل لي في إحدى محاضراتي من قبل الإعلامي والباحث د.خالد الحروب، وقد يقول البعض كما قيل لي في محاضرة أخرى في جمعية أساتذة الجامعات بمدينة غزة: هي قومية، وقال بعضهم: هي وطنية إسلامية أو هي وطنية وقومية وإسلامية في آن.
 
لن أتكلم هنا عن محاولة المزج بين الفساد والصلاح وإعطاء الوطنية معنى غير معناها الحقيقي الذي يتمثل في ربط البشر برابطة الأرض وتمزيق قضايا المسلمين وتقسيمها حسب قسمة سايكس وبيكو، ولا عن رفض اعتبار الصراع في فلسطين امتدادًا للحرب الصليبية على الإسلام والمسلمين مع أن مقولة "الآن انتهت الحروب الصليبية" و "ها قد عدنا يا صلاح الدين" شاهدة على حقيقة الصراع، ولكني سأتكلم عن التصريح والإقرار بأن قضية فلسطين قضية إسلامية من قبل أحزاب ومؤسسات ومفكرين لكن دون أن يجد هذا القول له فرصة لوضعه في مرتبة التطبيق الفعلي.
 
قضية حقوق فردية أم قضية أرض مقدسة؟
 
إن أرض فلسطين أرض خراجية وقف للأمة الإسلامية جميعها، سلفها وحاضرها وخلفها، فلا يملكها من يسكنها وإنما يمتلك منفعتها، ولا تملكها الأمة الإسلامية اليوم ولكنها مؤتمنة عليها، لذلك فإن الحق في فلسطين هو حق شرعي مقدس لأمة الإسلام، وليس مجرد حق في عقار هنا أو هناك لهذا الشخص أو ذاك يمكنه أخذ تعويض مادي عنه أو التنازل عنه، فالموضوع موضوع مقدسات وليس موضوع ممتلكات فردية، موضوع الأرض المباركة والمسجد الأقصى وليس موضوع بيتي في يافا.
لذلك فإن من مقتضيات كون قضية فلسطين قضية إسلامية أن يتم الكف عن التحدث عن حق العودة المطروح حسب قرار 194 الذي يجعل الحقوق فردية ويتضمن صراحة الاعتراف بحق "إسرائيل" في معظم فلسطين فقد جاء في نصه: (تقرر وجوب السماح بالعودة في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم ....)ا.هـ
 
فالدعوة والترويج وبناء البرامج الحزبية على أساسٍ مثل هذا يعتبر تزويرًا للوعي الإسلامي بشكل عام، ويعتبر خيانة للمفاهيم والحقائق الإسلامية وتناقضًا معها مهما كانت المبررات.
 
حقوق وطنية أم حقوق شرعية لأمة إسلامية؟.
 
إنه فوق حرمة أن يرتبط المسلمون برابطة سياسية غير رابطة العقيدة الإسلامية، فإن جعل الحق في فلسطين وطنيًا وبناء السلوك على هذا الأساس يناقض مقتضى أن قضية فلسطين قضية إسلامية لأن الحقوق في فلسطين حقوق للأمة وليست حقوقًا لأهل فلسطين. والقول كذلك للأمة في وقت كانت كل دقيقة تمر فيه تحمل معها خبر عشرات الشهداء "لا تقاتلوا عنا"، "يمكنكم أن تعتمدوا على المقاومة"، يعتبر حصرًا للمسئولية وللحقوق في أهل فلسطين فقط.
 
فالواجب أن ننطلق في تصرفاتنا كمسلمين من عقيدتنا لا من منطق حدود سايكس-بيكو أوما تسمح به الأنظمة، وأن نكف عن استعمال مصطلح الحقوق الوطنية، وأن نرفض ما يسمى بالمشروع الوطني، ونعلن البراءة مما يسمى بالممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني الذي ما أوجد إلا للتفاوض باسم أهل فلسطين ليصل بنا وبالقضية إلى ما آلت إليه اليوم، وعدم الخوض في المشاريع السياسية التي يطرحها الغرب الكافر ويروجها حكام العرب.
 
وإن تكرار مصطلح معين يدل على قصد المتحدث وفي نفس الوقت يؤثر في وعي السامعين ويترسخ، خاصة عندما يتكرر من رموز وقادة، ولا مكان للنوايا هنا.
 
هل يصلح الذباح قاضيًا أو يؤتمن الذئب على الغنم؟
 
إذا كان الركون للظالمين يستوجب خذلان الله في الدنيا، وعقوبته في الآخرة بقوله تعالى: { وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ}، والركون هو الاستناد والاعتماد والسكون إلى الظالمين، فما بالكم بالركون إلى الكفار المستعمرين الذين أنشأوا كيان يهود وما زالوا يدعمونه سرًا وعلانية بكافة أشكال الدعم، ويحاربون الإسلام والمسلمين في كل مكان؟؟
 
هل يجوز التحاكم إلى شرعهم؟ هل يجوز الرضى بقراراتهم التي أضفت الشرعية المزعومة على كيان يهود ودعمته الدول القائمة على هذه الشرعية المزعومة بالمال والسلاح والتأييد السياسي؟
 
إن التحاكم للشرعية الدولية هو انتحار بكل المقاييس، لأن اللجوء للشرعية الدولية يعني تسليم قضايا المسلمين للذبّاحين الرأسماليين مهما اختلفت أسماؤهم، وكأننا أمة بلا إرادة!
 
وإن من مقتضيات كون قضية فلسطين قضية إسلامية عدم تسليم مفاتيح القضية للكفار المستعمرين، وعدم قبول أو احترام شرعيتهم الدولية جملة وتفصيلاً، وبالتالي التوقف عن المناداة بتطبيق قراراتهم أو مناشدتهم، لأن هذا يتناقض مع كون قضية فلسطين قضية إسلامية، فإنه لا يفصل فيها إلا الإسلام ما دامت إسلامية.
 
إعفاء الأنظمة والأمة من مسئوليتها الحقيقية:
 
إذا كانت قضية فلسطين قضية إسلامية تخص كل مسلم، فلماذا نرى السكوت على مواقف الحكام الخيانية؟
 
أليست هذه الأنظمة هي من يعترف بالكيان الغاصب ويحمي حدوده ويروض الشعوب لقبوله ويمده بأسباب الحياة من طاقة وتجارة وغيرها؟
 
وهل الجهاد لتحرير بيت المقدس مطلوب شرعًا من أهل فلسطين فقط؟ أليس الجهاد واجبًا على المحيطين بفلسطين من الأمة وعلى رأسها القوات المسلحة؟ وخاصة أن أهل فلسطين لا يستطيعون تدمير هذا الكيان وتحرير الأرض المقدسة فها هي المقدسات تهوّد وهم لا يستطيعون حيلة؟!
 
فلماذا نتجاوز هذه الحقيقة ونقيم العلاقات الودية والحميمية مع هذه الأنظمة الجائرة أدوات المستعمر، ولا نحاسبها على خيانتها وتفريطها ولا نيقظ الوعي في الأمة على ضرورة وفرضية الجهاد لتحرير فلسطين في حقهم؟ بل ونرى أحيانًا مديحًا لها!
 
هذه الأنظمة التي تريد قصر الجهاد على الحركات الفلسطينية فقط، وأن تأخذ صك البراءة منها مقابل شعارات فارغة وبعض الأموال، وأن توظف هذه الحركات لتحقيق رؤيتها في "السلام العادل والشامل" من خلال حل الدولتين!!
 
إن من مقتضيات كون قضية فلسطين قضية إسلامية أن يوضع جميع المسلمين أمام مسئولياتهم الحقيقة وأن يصبح هذا الكلام رأيًا عامًا، وأن نواجه الأمة بالحقيقة التي لا مفر منها، وهي أن تحرير فلسطين مرتبط بنهضتهم وتخلصهم من أدوات الاستعمار المتمثلة في هذه الأنظمة.
 
فأي إقرار للحكام الظلمة على حالهم الذي هم فيه من اعتراف بكيان يهود، وسكوت عن جرائمه واحتلاله لأرض الإسراء والمعراج، وترويج للتطبيع معه، وتوسط بينه وبين أهل فلسطين المحتلين.. يعتبر مناقضًا لكون قضية فلسطين إسلامية، فالحكام مسئولون شرعًا عن قضية فلسطين أكثر من أهل فلسطين المغلوب على أمرهم..
 
حق تاريخي أم حق عقائدي؟
 
إذا كانت قضية فلسطين قضية إسلامية وكان الحق فيها للمسلمين، فبأي شيء ثبت لهم هذا الحق؟
 
هل ثبت بأقدمية السكنى أم ثبت بفتحها وبوجود المقدسات الإسلامية فيها؟ هل ثبت بالآثار القديمة أم بقول الله تعالى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}؟
 
فإذا كان الجواب بالثانية فلماذا الانجرار وراء فرية الحق التاريخي؟ ولماذا تغيير وجه الصراع من صراع عقائدي على أرض مقدسة إلى صراع نبش على قطع آثار؟!
 
إذا كان اليهود المغتصبون قد افتروا هذه الفرية ونريد أن نرد عليهم فإن الرد يجب أن يكون من الزاوية الحقيقة للصراع وهي زاوية العقيدة وباقي التفاصيل لا لزوم لها، إلا عند الذين يتوسلون الحلول عند الدول الغربية الماكرة ويريدون استعطاف العالم بسذاجتهم، مع رؤيتهم يوميًا أن الذي يدعم ويقوي هذا الكيان هي هذه الدول الغربية وأن الذي يجعل الاعتراف بهذا الكيان شرطًا لأي حل هي هذه الدول الغربية.. وهذه النظرة تتناقض مع كون قضية فلسطين قضية إسلامية لا يفصل فيها إلا الإسلام ولا تحرر إلا بالإسلام ويحرم التفاوض على شبر منها مهما كانت المبررات ومهما كانت الأوضاع.
 
طريق الخلاص :
 
إن قضية فلسطين قضية أمة وليست قضية شعب وحلها يكون على مستوى الأمة، وهي قضية إسلامية وحلها لا يكون إلا إسلاميًا، لذلك فإن تحرير فلسطين هذه الأرض المقدسة يكون عبر مشروع يشمل الأمة الإسلامية بحيث يستند في كل بنوده إلى الإسلام وحده.
 
وهذا المشروع بوضوح يقوم على حمل الإسلام - من خلال حزب سياسي مبدئي- كنظام سياسي عملي جاهز للتطبيق، ومواجهة الأنظمة الحالية به، ومكافحة الأسس والتفريعات التي تقوم عليها، وتعبئة الرأي العام ضد تحركاتها التي لا تستند إلى الإسلام ولا تصب في مصلحة الأمة الإسلامية وإنما تخدم أعداءها والانفضاض عن الشراكة السياسية معها، وتقّصد مكامن القوة في الأمة من قبائل ومناصب وقيادات عسكرية وأوساط سياسية حتى تأخذ زمام المبادرة وتنزع عنها الحكام الذين لا يحسون بإحساسها ولا يحفظون دينها ومقدساتها وحرماتها ثم تسلم قيادتها لرجل يحكمها بالإسلام تبايعه على ذلك وليس غير ذلك، وعندها فقط تنقلب الموازين كليًا وتبدأ حالة التعبئة والاستنفار وحالة ضم الأقطار الإسلامية المجاورة شيئًا فشيئًا حينما تدرك الأمة عمليًا إخلاص وجدية الدولة الإسلامية (الخلافة) التي بشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينها يتحقق قول الرسول الكريم بقتال المسلمين لليهود وطردهم من فلسطين وجعل بيت المقدس عاصمة الخلافة.
 
هذا بالتوازي مع أهم عمل يمكن أن يقام به داخل الأرض المحتلة وهو الرفض القاطع والنهائي لكل مشروع سياسي تروجه الأنظمة بالتعاون مع نفر باع دينه من أهل فلسطين، بالإضافة إلى ما يمكن أن تحدثه المقاومة من قلق للكيان الغاصب خصوصًا إذا لم تكن مرتبطة بدول عميلة، وسيكون أثرها عظيمًا عندما ترتبط بدولة الخلافة ككيان مخلص يسعى لاستئصاله نهائيًا وليس لتحقيق السلام معه.
 
عبرة وخاتمة:
 
إن بيت المقدس قد احتل قرابة 90 عامًا فصبر أهله وصابروا، ولم يعترفوا بالمحتل ولم ينشئوا سلطة تحت سلطانه لخدمته ولم يناشدوا الدول النصرانية لحل مشكلتهم ولم يوالوها، وتمثلوا قول الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ} فيسر الله صلاح الدين رحمه الله الذي كان على اتصال مع الخلافة، فعمل على مدار بضعة عشر عامًا على توحيد ما تفرق من الأمة ثم خاض معاركه مع الصليبيين وحرر بيت المقدس.
 
وإذا نظرنا إلى الآية السالفة لآية تحريم الركون إلى الذين ظلموا نجد قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} فمن أراد أن يدعو لدينه أو يحرر أرضه فليعمل بمقتضى منهج الله ورسوله وليس بحسب أي منهج آخر، فالغاية لا تبرر الوسيلة، ورحم الله ربعي بن عامر الذي قال لرستم وجها لوجه: (إن مما سن لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعمل به أئمتنا ألا نمكن الأعداء من آذاننا).
 
23-10-2010م