بسم الله الرحمن الرحيم
" في ذكرى مولد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم) "
 
بقلم: حمد طبيب
 
يقول الحق تبارك وتعالى في كتابه العزيز:{ لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } ( آل عمران / 164 ) في مثل هذه الأيام العظيمة في الثاني عشر من ربيع الأول، كان ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم، فماذا تعني هذه الذكرى المباركة لأمة الإسلام، وما هي الدروس والعبرُ المستفادة من هذه الذكرى العطرة ؟!
إن ميلاد الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم يعني ميلاد أمة عظيمة، حملت رسالة هادية إلى البشرية جميعاً !!. فقد عاش العرب قبل الإسلام حياة ملؤها الظلم والظلام بشتى أنواعه، وكافة أشكاله وألوانه، وكانوا شعوباً وقبائل متفرقة مشرذمة متناحرة، لا يجمعها جامع، ولا يربطها أي رابط، ولم يكن لهم وزن ولا قيمة، ولم تكن لهم حضارة ولا مدنية متميزة؛ بل كانوا في تيهٍ وضلال وضياع وتناحر دائم !!
وعندما جاء الرسول الكريم بهذه الرسالة العظيمة – رسالة الإسلام- أصبحوا أمة متميزةً بين الناس، وصاروا وحدة واحدة، يعبدون رباً واحداً بدل أرباب متفرقة، لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تضر ولا تنفع !!
لقد أصبح العرب وغيرهم من شعوب بهذا الدين العظيم خير أمة أخرجت للناس على وجه الأرض، وأقوى الأمم، وأكثرها مدنية وعلماً، حتى أضحوا كالشامة بين الأمم .. ووصلت حدود دولتهم إلى المحيط الهادي شرقاً، وإلى المحيط الأطلسي غرباً وإلى أواسط إفريقيا جنوباً، وإلى سيبريا شمالاً حتى قال المؤرخون: إن الشمس لا تغيب عن أملاك الخلافة الإسلامية !! أما العلم والتقدم العلمي فلا يتّسع المجال هنا لذكر ما وصلت إليه أمة الإسلام في ظل حكم الإسلام من تقدم علمي وعمراني وغيره من شؤون المدنية، ولكن يمكن القول بإيجاز : إن الأمة الإسلامية – بشهادة الغرب من الساسة والمستشرقين – كانوا الأوائل في هذا المجال، وليس ذلك فحسب بل إن غيرهم يبعد عنهم مسافة طويلة في هذا المجال !! .. تقول المستشرقة الألمانية (زغريد هونكه) في كتابها الشهير، ( شمس العرب تسطع على الغرب : "   إن الغرب بقي في تأخره ثقافيا واقتصاديا، طوال الفترة التي عزل نفسه عن الإسلام ولم يواجهه ، ولم يبدأ ازدهار الغرب ونهضته إلا حين بدأ احتكاكه بالعرب المسلمين؛ سياسيا وعلميا وتجاريا واستيقظ الفكر الأوروبي على قدوم العلوم والآداب والفنون العربية، من سباته الذي دام قرونا ليصبح أكثر غنى وجمالا وأوفر صحة وسعادة "
ويقول الرئيس الأمريكي الأسبق( نكسون) في كتابه الشهير ( أمريكا والفرصة السانحة ) :" لقد كان للعرب المسلمين فضل عظيم في هذه الثورة العلمية في بلاد الغرب عن طريق الأندلس وشمال إفريقيا "
إن هذا الارتقاء العظيم في كل شيء كان الفضل فيه أولاً لله عز وجل، ولدين الإسلام العظيم، وللحكام الأتقياء الذين ساروا على هذا المنهج الرباني السامي العظيم !!
فقد حبا الله تعالى هذه الأمة العظيمة على مدار التاريخ الإسلامي بحكام أتقياء، يرعون أمتهم حقّ الرعاية، ويطبقون أحكام هذا الدين تطبيقاً صحيحاً كاملاً غير منقوص ..، فهذا (أبو بكر الصديق رضي الله عنه) يخاطب المسلمين بعد أن ولي الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : "إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم .. إن القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، وان الضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح الحق عليه!!...،وهذا خليفته (عمر الفاروق رضي الله عنه) يصعد المنبر بعد تولّيه الخلافة فيقول:" من رأى منكم فيَّ اعوجاجا فليقوّمه!!، فيجيبه رجل من عامة المسلمين قائلا: "والله يا عمر لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحدّ سيوفنا فيبتسم عمر رضي الله عنه ويقول: "الحمد لله الذي جعل من المسلمين من يقوّم اعوج عمر بحد سيفه"!!...
لقد كان هؤلاء القادة العظام منارة يستأنس بنورها في كل الميادين؛ ففي مجال العدل والقضاء يقف أمير المؤمنين (علي رضي الله عنه) أمام القاضي شريح مع خصمه اليهودي، فيحكم القاضي شريح بينهما دون أيّ تمييز ، مع أن أحد الخصمين هو أمير المؤمنين، وفي مجال الرعاية الحقّة الصحيحة؛ هذا عمر الفاروق رضي الله عنه يطوف على نساء المحاربين بنفسه، ويسألهن حاجتهن ليقضيها عنهن، وكان يقول مقالة مشهورة " أنا أبو العيال " ، وعندما اشتد على الناس الفقر في عام الرمادة قال : "والله لا أشبع حتى يشبع آخر مسلم في المدينة" !! أما في مجال الحرب والقتال والفتوحات؛ فهذا (صلاح الدين الأيوبي) يقول:" كيف أضحك وأبتسم، أو أنام مرتاحاً والمسجد الأقصى المبارك؛- مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم- بيد الصليبيين ؟!، وظل رحمه الله يجاهد حتى استخلصه وخلّصه من أعداء الله بعد معركة حطين الفاصلة..!!، وهذا (عقبة بن نافع) رحمه الله تعالى يقف أمام المحيط الأطلسي بعد أن فتح الأمصار تلو الأمصار في شمال إفريقيا، ويقول مخاطباً البحر: " والله يا بحر لو كنت أعلم خلفك أناساً لخضتك بسنابك خيلي مجاهدا في سبيل الله!!"..
وهذا (محمد الفاتح)؛ السلطان العثماني العظيم، يتطلع لفتح القسطنطينية لينال شرف مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعم الأمير أميرها " فيتفانى معه المجاهدون لينالوا شرف المديح الآخر " ولنعم الجيش جيشها .. " ويبقى رحمه الله في جهاد متواصل استمر( سبعة أسابيع ) سنة 1453 حتى نال هذا الشرف العظيم، لتصبح هذه المدينة العظيمة بعد ذلك عاصمة الدولة الإسلامية سنوات طويلة !!
لقد كان هؤلاء الأعلام إسلاماً يمشي على الأرض؛ في حسن التطبيق، وحسن التخلّق والعمل، فأنعم الله عليهم بالخير العميم الكثير في شتّى مجالات الحياة، حتى أضحت الدولة الإسلامية في عهدهم( حاضرة الدنيا)، ومنارة الناس في الخير !! ..
فماذا عن حال حكام المسلمين اليوم، وأين هم من هؤلاء القادة العظام، وكيف أصبح الحال في ظلّ حكمهم ؟!
لقد خًلفً من بعد هؤلاء الحكام العظام أقزامٌ صغار، لا يعرفون لدينهم وزناً ولا قدراً، ولا يقيمون لأمتهم أيّ اعتبار، أذلةٌ على الكافرين، أعزةٌ وأسودٌ على بني دينهم من المسلمين، يغرقون في الملذات والشهوات والمجون..، لا يعصون لدول الكفر كأمريكا وكيان يهود أمراً ولا نهياً، ويفعلون ما يؤمرون..!!
سرقوا أموال المسلمين وأودعوها لحسابهم الخاص في بنوك الغرب، والأمة تتلوّى من شدة الجوع في فقر مدقع، ومن رفع صوته من الناس متظلماً جلدوا ظهره بالسياط، وأودعوه في غياهب السجون السنوات الطوال، أو أجبروه على مغادرة أرضه ودياره إلى أرض الكفار ..
عقدوا معاهدات الخيانة والذل والصغار مع أذل الخلق، وأشدّ الناس عداوة لأمة الإسلام من بني يهود؛- أحفاد القردة والخنازير-، وأجبروا الأمة على البقاء في هذا الحال الذليل..!!، وأصبح المسلمون في ذيل الأمم في مجال التقدم العلمي والاختراعات والاكتشافات، وكثيرٌ من العلماء المسلمين لا يجدون مكاناً في بلادهم يحتضنهم، فيضطروا للهجرة والرحيل إلى بلاد الغرب؛ ينتفع من علمهم أعداؤهم الكفار، وكان الأصل أن ينتفع به أبناء المسلمين في العالم الإسلامي!!
لقد صدق في هؤلاء اللئام من الحكام حديث المصطفى عليه السلام : " سيأتي الناس سنوات خداعات يؤتمن فيها الخائن ويخوّن فيها الأمين، ويُصدّق فيها الكاذب، ويكذّب فيها الصادق، وينطق الرويبضه، قالوا : وما الرويبضة؟!، قال: الرجل التافه ينطق في أمر العامة" .. وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سيلي عليكم أمراء تعرفون وتنكرون، فمن عرف فقد سلم، ومن أنكر فقد برئ ولكن من رضي وتابع " وحديث المصطفى عليه السلام : " سيلي عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم، فإن أطعتموهم أذلّوكم وإن عصيتموهم قتلوكم، قالوا فما تأمرنا يا رسول الله قال: كونوا كأصحاب عيسى عليه السلام نُشّروا بالمناشير وحمّلوا على الخشب، فو الذي نفسي بيده لموتةٌ في سبيل الله خير من حياة في معصيته "
 
لقد ضاقت الأمة ذرعاً بهؤلاء المجرمين من الحكام، وتحرّكت في عروقهم دماء العزّة والكرامة، وشعرت بالذلّ والهوان يمارس على رقابها من هؤلاء الرويبضات الأقزام، فوقفت على أقدامها تصرخ بأعلى صوتها: ( ارحلوا عنا) .. كفانا ذلاً وهواناً وصغاراً ..، ارحلوا عنا فقد أوردتمونا موارد الفقر والكفر والشقاق والنزاع حتى بين أبناء البلد الواحد!!.. ارحلوا عن أرض المسلمين، فقد أصبحت الحجارة تشتكي من ظلمكم، والبهائم العجماء تتأذى من وجودكم؛ حتى الطيور في السماء والحيتان في البحار!! .. ولم تكتف الأمة بالصراخ وإعلاء الصوت، بل إنها وقفت لهؤلاء الحكام وقفة رجلٍ واحد تدفعهم للرحيل دفعاً بأحذيتها وأيديها وأرجلها، وكل ما وصلت إليه أيديها .. تُقدّم الشهداء تلو الشهداء غير خائفةٍ ولا آبهةٍ بهؤلاء الرويبضات !!
لقد حقّقت الأمة انتصارات عظيمة على هؤلاء الرويبضات من أعوان الكفار، ولكن هل يكفي من الأمة هذه الانتصارات العظيمة؟! هل يكفي مجرد خلع هؤلاء الرويبضات عن سدّة الحكم والسلطان ؟!، ماذا على الأمة أن تفعل بعد هذا الانتصار العظيم ؟!
إن الانتصار الكبير لهذه الأمة العظيمة يكون عندما تتوّج هذه الانتصارات بالاحتفال المهيب في ظلّ حكم الإسلام، عندما تنزع هذه الدساتير العفنة من بقايا حكّام الذلّ والهوان، والتي أملتها عليهم أمريكا وفرنسا وبريطانيا، وتضع مكانها دستور العزة والرفعة والإيمان (دستور القرآن العظيم)..!!
إن الانتصار الحقيقي يكون عندما تحتفل الأمة الإسلامية في ساحات المسجد الأقصى المبارك بعد تحرره، وهي تهتف بأعلى صوتها "الله أكبر والعزة للإسلام"، "وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا" !!
إن الانتصار الحقيقي يكتمل وتعمّ الفرحة الكبرى، عندما تدوس الأمة على هذه الحدود والسدود التي تمزّق بلاد المسلمين وتشتّت شملهم وتفرّق جماعتهم، وتشّتت وحدتهم وكيانهم إلى دول ودويلات ذليلة..!!
إن الانتصار الحقيقي يكون عندما تتّحد جيوش هذه الأمة الكريمة، تحت راية "لا إله إلا الله محمد رسول الله، وشعار "الله أكبر والعزة للإسلام"، وتسير هذه الجيوش تفتح الأمصار تلو الأمصار كما فعل سلفها في عهد الخلفاء الأبرار !!
إن هذه الانتصارات العظيمة، التي تحقّقها الأمة في بلاد المسلمين تكمل بخلع كل رموز الفساد من أعوان الحكام، وخلع جذور الاستعمار السياسي والفكري من أرض المسلمين، ونبذ كل المعاهدات والمواثيق التي تتصل بأعداء هذه الأمة ..، وإننا ننظر بشوقٍ ولهف إلى اليوم الذي تحقق فيه الأمة هذا النصر العظيم المؤزّر..، وإن هذه الأحداث الكبيرة التي جرت وما زالت تجري في ساحة بلاد المسلمين يجب أن تكون مفتاحاً للتحرّر الحقيقي والرفعة والعزة العظيمة، ولا تقف عند حدود خلع هؤلاء الرويبضات فقط .
إن هذه الذكرى العظيمة ( ذكرى المولد النبوي )، لتذكرنا برسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وبرسالته العظيمة رسالة الإسلام، والدولة العليّة التي بناها (صلى الله عليه وسلم) فطاولت الثريا في علوها ومكانتها !! وتذكرنا بوجوب إعادتها – كما أمر الله ورسوله – وذلك بعد هدم هذه الأوثان؛ من عبُاّد أمريكا وكيان يهود .. عندها تفرح الأمة جميعاً بنصر الله : { ... وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ $ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ $ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } ( الروم 4-6 ) .
 
12 / ربيع الأول 1432 هـ