"مفهوم القضاء في السياسة الداخلية "
بقلم: حمد طبيب
إن من أبرز ما تهدف إليه السياسة الداخلية في الدولة الإسلامية هو استتباب الأمن، ونشر وإرساء قواعد العدل بين الناس، وذلك عن طريق أحكام هذا الدين العادلة في القضاء والحسبة، وأمن الشرطة والجيش وغير ذلك ...
وقبل أن نبدأ بالحديث عن أهمية القضاء ومفهومه من حيث تحقيق هاتين الغايتين العظيمتين في سياسة الدولة الداخلية، نقول: إن الناظر اليوم إلى أحوال الناس في ظل النظم الرأسمالية الغربية يرى أنها في أسوأ حال؛ من حيث عدم استتباب الأمن، وغياب العدالة من ساحتهم، وذلك بسبب تطبيق أحكام النظام الرأسمالي الكافر؛ في أمور القضاء وغيره من شؤون الحياة الأخرى!!.
أما ما يتعلق بالقضاء ففي أحكام البينات على سبيل المثال، كثيراً ما يحصل الظلم في أخذ غير الجاني بدل الجاني الحقيقي، وذلك بسبب الاشتباه بشخص معين أنه ارتكب الجريمة، ثم وضعه في دائرة الاستجواب والتحقيق الجسدي، ومن ثم انتزاع الاعتراف منه بالقوة، وبعد سنوات من مكوثه في السجن والعذاب يظهر وينكشف الفاعل الحقيقي للجريمة، فلا تملك المحكمة إلا الاعتذار من الشخص المظلوم !!.
 أما في إجراءات القضاء والبتّ في الحكم فإن بعض المحاكمات التي لا تحتمل التأخير، -لأن التأخير فيها ساعة واحدة يلحق الظلم بالخصم- نرى أن بعض القضايا في محاكم اليوم تمكث عشرة سنوات أو خمسة عشر سنة، ويموت أثناء ذلك أحد الخصمين، أو كلاهما وتبقى القضية في المحكمة مستمرة ..
وفي مجال إيقاع العقوبة على مرتكب الجرم، فإن كل القوانين المطبقة في نظام القضاء اليوم تخالف أحكام الدين الإسلامي باستثناء المحاكم الشرعية؛ أي في أمور الأحوال الشخصية في الطلاق والزواج والميراث، مع وجود بعض الثغرات حتى في هذه المحاكم؛ ففي موضوع السرقة مثلاً يحكم على الفاعل بالسجن ولا يُنظر إلى موضوع الحق المعنوي أو العيني نظرة عادلة، وفي أغلب الأحيان يضيع هذا الحق ويُستبدل بغرامات مالية تُدفع للمحكمة، أو بسنوات سجن يحكم بها على الجاني..وفي موضوع القتل يحكم على المجرم بالسجن، وبعد مدة من الزمن يخرج من السجن ثم تحدث جريمة جديدة، ويتولد عن ذلك عدة جرائم بسبب عدم وجود العدالة في إيقاع العقوبة الصحيحة، مما يدفع الناس لأخذ القانون بأنفسهم لاستخلاص حقهم!! ..
وفي موضوع عرض وطريقة إثبات البينات من قبل المحامين؛ فإنه في كثير من الأحيان يقلب البعض من هؤلاء الحق باطلاً والباطل حقاً، بسبب قدرته على المناورة الكلامية، ودحض حجّة الخصم بطرق معوجة -لا تتبع طريقة البيّنة الصحيحة- مع أنه على حق، ويضيع حق الناس في ثنايا مناكفات ومناقشات كلامية أمام القاضي ..
والحقيقة أنه بسبب هذا العُوار الحاصل في النظم الرأسمالية، فإننا نرى أن الأمن غير مستتب في كل بلاد العالم الإسلامي، ونرى كذلك أن العدل والاستقامة بين الناس مفقودة تماماً من حياتهم، فالقويّ أو الغني أو من له نفوذ في السلطة يستطيع أن يجلب الحق لصالحه، ومن كان فقيراً ليس له معين فإنه غالباً ما يكون نصيبه الظلم وضياع الحق ..
فالسرقات تزداد يوماً بعد يوم، وجرائم القتل والاغتصاب والتحرش أيضاً تزداد باضطراد، والاعتداء على الأملاك والحقوق ينتشر انتشاراً كبيراً بين الناس، بسبب عدم وجود المنصف العدل وهكذا كل ألوان الجرائم في ازدياد واتساع دائم !! ..
وفي المقابل فإننا إذا نظرنا إلى أحكام هذا الدين العظيم ( دين الإسلام ) فإننا نرى العدل والاستقامة في أبهى صورها في التشريع وفي سياسة الناس، ونرى الأمن في كل أرجاء الدولة الإسلامية في وقتٍ طُبق فيه هذا الدين! ..
وحتى نرى استقامة هذه الأحكام، ومساهمتها بشكلٍ فاعلٍ كبير في تحقيق الأمن والعدل والاستقامة في ربوع الدولة الإسلامية، سوف نستعرض بعض الأمور الخاصّة بموضوع القضاء من حيث استقامة أحكامه الشرعية وعدالتها، ومن حيث المواقف الوضاءة في التاريخ الإسلامي لمن حكم بهذا القضاء المستقيم العادل ...
ففي مجال الأحكام الشرعية الربانية الهادية المستقيمة فإن أحكام القضاء بشقيها البينات والعقوبات، وأحوال القاضي وصفاته؛ تحقق العدل والأمن في السياسة الداخلية للدولة الإسلامية، وهذا يظهر بشكل جليّ واضح من خلال الأمثلة التالية في هذه الأحكام العالية :-
1- في أحكام البينات :- لقد أوجب الحق تعالى على القاضي أن يتحرّى في موضوع إثبات الجريمة، وجعل الخطأ في العفو ألف مرةٍ خير من الخطأ في العقوبة ولو لمرة واحدة، وذلك كما ورد في حديث المصطفى عليه السلام: "عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة رواه الترمذي، وروي موقوفا عن عمر رضي الله عنه،قال:( لأَنْ أُخْطِئَ فِي الْحُدُودِ بِالشُّبُهَاتِ، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُقَيِّمَهَا بِالشُّبُهَاتِ)، قال ابن حجر صحيح الإسناد.
ومن أحكام البينات أيضاً أنه لا يجوز أن ينتزع الاعتراف من الخصم انتزاعاً عن طريق التعذيب أو عن طريق ممارسة الإغراءات أو التهديدات، إنما يجب أن يكون إثبات الجرم عن طريق شرعيّ بإحدى البينات التي أقرها الإسلام وهي:( الإقرار، واليمين، والشهادة، والمستندات الخطية المقطوع بنسبتها وصحتها دون لبس ولا إبهام)، لان الأصل الشرعي في المسلم انه بريء الذمة وليس متهما، حتى تثبت إدانته ببينة شرعية اقرها الشرع في إثبات الجرم، ولان الرسول عليه السلام نهى ان يضرب المسلم دون ذنب اقترفه؛ قال عليه السلام : (إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ ثَلَاثًا) وقال عليه السلام (ظهر المؤمن حمى إلا بحقه )‏ أخرجه الطبراني ...
2- الإسراع والتسهيل على الرعية في موضوع التقاضي وإثبات الحقوق :-
فمن ينظر في موضوع القضاء في أحكام الإسلام يرى أنه يمتاز بالسهولة في التعامل مع الناس وعدم التعقيد، وعدم إلحاق أعباء مالية كبيرة بالفرد تحول بينه وبين التظلّم، كما هو حاصل في المحاكم الرأسمالية؛ حيث يتكلف الفرد في هذه المحاكم نفقات عديدة؛ من رسوم ونفقات محامي إجبارية، وغير ذلك من نفقات لا ضرورة لها ولا دخل لها في موضوع التظلم أصلاً .
3- المساواة بين الجميع أمام القضاء : - فلا يوجد أية محسوبيات في موضوع القضاء؛ فالغني والفقير، والسيد والعبد، والحاكم والمحكوم كلهم أمام القضاء سواسية، وهذا الأمر ظاهر من خلال نصوص الآيات القرآنية وأحاديث المصطفى عليه السلام: " إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا {/النساء 58}، وقال عليه السلام ( الناس سواسية كأسنان المشط الواحد)، وقال: ( لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على غربي إلا بالتقوى)
4-اختيار أهل العلم والتقوى لإقامة مجالس القضاء، وعزل واستبعاد كل من يثبت فيه عدم الكفاءة أو ضعف العلم والتقوى؛ لأن القضاء يقوم على العدل والاستقامة والحزم، وفاقد الشيء لا يعطيه في هذا الأمر . وأي أمر فيه مظنة التأثير على حكم القاضي من حيث الفسق أو عدم العلم، أو حتى أمور شخصية تتعلق بحياته الداخلية، يمكن أن تؤثر على راحته النفسية، ويمكن أن تؤثر على هذا الأمر فإنها تستبعد من دائرة القضاء.
5- الحزم وعدم التساهل في أمور الحدود، وعدم التساهل أيضاً في أمور التعزير مع من لا يرتدع إلا بالشدة والقوة .
فالحد إذا وصل القاضي فلا عفو فيه، وأصبح لزاماً على القاضي تنفيذ الحكم حتى لو تشفع في ذلك أهل الأرض. وهذا واضح في رد الرسول عليه السلام على أسامة بن زيد عندما جاءه متشفعاً في الغامدية " لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" .
6- الدقة في إنزال العقوبة المقدرة شرعاً على كل جرم، وعدم أخذ أي عقوبة من خارج دائرة الإسلام. فالسارق تقطع يده استجابة لقوله تعالى : "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما..." وبنفس الكيفية التي أمر بها الإسلام لأن الرسول عليه السلام يقول : " من بلغ حداً في غير حد فقد اعتدى".
7- إتاحة المجال للتظلم من حكم القاضي في أمور؛ كترك القاضي الحكم بأحكام الشريعة الإسلامية، أو الحكم في قضية بما يخالف نصّا قطعيا، أو في حال مخالفة الحكم للواقع المتعلق بالقضية، وفي حال ثبت أن القاضي خالف الهيئة الصحيحة لجلسة القضاء، أو الشروط الصحيحة لأحوال القاضي التي من شأنها أن تؤثر في إصدار الحكم؛ مثل الغضب وأمثاله، أو ثبت بشهادة الشهود انه حابى احد الخصمين، بأن اثر عليه بالتهديد، أو منعه من إحضار بيّناته كاملة، أو ما شابه ذلك مما يؤثر على العدل والإنصاف بين الخصمين...
هذه بعض الأحكام الخاصّة بموضوع القضاء وتساعد على تحقيق العدالة والأمن في سياسة الدولة الداخلية، وقد ضرب الخلفاء والقضاة في تاريخ الإسلام أروع الصور في إحقاق الحق وإقامة العدل بين الناس؛ فهذا أبو بكر رضي الله عنه يعلن من على منبر الخلافة في أول خطبة له رضي الله عنه قائلاً : " ... إن القوي ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، وإن الضعيف قوي عندي حتى أريح الحق عليه .... " وهذا قمة العدل في الرعاية بين الناس ومنه القضاء في الخصومات والحسبة، فلا فرق عند أبي بكر رضي الله عنه بين أحد من الرعية أمام الخصومة والقضاء، والناس كلهم سواسية كأسنان المشط الواحد، امتثالا لحديث المصطفى عليه السلام " الناس سواسية...." .
وهذا القاضي شريح في عهد الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يجلس أمامه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ومعه خصمه اليهوديّ ، فيقول القاضي للإمام: تكلّم يا أبا الحسن، ويخاطب اليهودي فيقول : تكلم يا يهودي، فيردّ عليه الإمام علي قائلاً: ما أنصفت يا قاضي شريح!، قال : ولم يا أمير المؤمنين؟ قال : خاطبتني بأبي الحسن، وخاطبت اليهودي فلم تكنه بكنيته وهذا ليس عدلاً: فقال القاضي: لقد أصبت يا أمير المؤمنين وصار يخاطبه في جلسة القضاء بعلي !!
وهناك الكثير من مواقف العدل والاستقامة في موضوع القضاء، وقد فصّلت فيها كتب التاريخ الإسلامي وسير القضاة، ولا يتسع المجال هنا لذكر المزيد ..
وبناءً على ما سبق نرى أن القضاء في أحكام هذا الدين يحقق العدل والأمن والاستقامة في السياسة الداخلية للدولة الإسلامية، ولا يمكن لأي نظام آخر في الأرض أن يحقق هذا الأمر لا في النظم الرأسمالية ولا الاشتراكية ولا غيرها ...
فنسأله تعالى أن يكرمنا عما قريب بنظام العدل في ظل دولة العدل حتى يرى الناس استقامة هذا الدين العظيم فيدخلوا في دين الله أفواجاً أفواجا ..
 
16-2-2011