مؤتمر "أعدقاء" سوريا في تونس !

الدكتور ماهر الجعبري

نسي من يعتبرون أنفسهم "ممثلي" ثورة الشام أن فرنسا احتلت سوريا فقامت ثورة للتحرر من الاستعمار الفرنسي، ونسي أولئك "الممثلون" (لأدوار مسرحية) أنهم يدّعون راية رُفعت ضد ذلك الاستعمار ! ونسوا أن فرنسا تآمرت مع بريطانيا على تمزيق الشام عند تقاسم تركة الدولة العثمانية ضمن مؤتمر سان ريمو عام 1920، وأن الاتفاقية الاستعمارية لذلك المؤتمر منحت سوريا ولبنان للاستعمار الفرنسي، فيما منحت الأردن وفلسطين والعراق للاستعمار البريطاني (مع الالتزام بتنفيذ وعد بلفور لليهود). ومن الواضح أيضا أنهم لم يتعلموا شيئا عن مبدأ أيزنهاور (أو أنهم لا يريدون أن يفهموه)، وهو الذي قضى لأمريكا أن تحل في المنطقة كاستعمار "جديد" محل ذلك الاستعمار "القديم".

صار كل هؤلاء المستعمرون الأعداء عند أولئك "الثوريين" في المحافل الدولية "أصدقاء"، فتداخلت الكلمات، وتحول التعبير السياسي نحو "الأعدقاء" (وهو نحت لغوي قرأته لأول مرة لكاتب في صحيفة محلية في كندا منذ عقدين).

وهؤلاء "الفاهمون" للسياسة وأدوارها على الساحة الدولية يرفضون نظرية المؤامرة بالطبع، وهم يريدون من أهل الثورة على الأرض أن يقتنعوا أن الذئاب هي خير من يحرس القطيع إذا غاب الراعي، وأن "نار" الاستعمار تطفئ "رمضاء" الاستبداد العربي. ويريدون إعادة تدوير نفايات "الثورة العربية الكبرى" التي تمخضت عنها الأنظمة العربية التي تثور الأمة ضدها.

 وتحولت السياسة "الثورية" عندهم لعملية استنساخ أنظمة عربية تَسبح في فضاء الغرب وتسبّح بحمده، تماما كما تَجسّد في مشهد العناق الحار بين رئيس الحكومة التونسية المتمخضة عن ثورة تونس وبين مكين، ذلك الضيف الأمريكي الصديق-العدو!

إنه مشهد تغيير القبعات، بعدما تم وضع "طناجر" جديدة على الرؤوس، كما سخر الممثل السوري الراحل نهاد قلعي، وهو يقول "مختارنا الجديد يتقدم إليكم" ... وزعماء الثورة الجدد يتقدمون إليكم !

إنها سخرية الواقع السياسي المتناقض لحد الضحك الدافع للبكاء، وكيف لا يجتمع الضحك مع البكاء وقد صار الواقع مفتوحا لتعانق "الأعدقاء" ؟

وصارت عاصمة الثورة الأولى حاضنة "الأعدقاء"، ليبرز السؤال صارخا:كيف يمكن أن تحتضن تونس-الثورة مؤتمرا للتآمر على ثورة الشام ؟ وكيف يمكن تكرار مؤتمر سان ريمو لتبادل الأدوار وتقاسم النفوذ ولا ترتفع أصوات الثائرين في تونس ضد المؤتمرين وضد المتآمرين ؟

ويفتتح الرئيس التونسي (الثورجي!) مؤتمر أصدقاء الشعب السوري ليدعو إلى منح صك الغفران والعفو العام للمجرم بشار، وكأن المؤتمر يكشف عن عنوان أدق وهو "أصدقاء الرئيس السوري"، إذ يدعو إلى تكرار نموذج الفشل في اليمن عندما التف النظام اليمني على الثورة –بمعونة دول الخليج- وأعاد تشكّله من خلال رئاسة نائبه. ما الفرق بين رئيس النظام ونائبه ؟

ويجدد رئيس الجامعة العربية الترويج للمبادرة العربية التي ولدت ميتة، بل هي أثبتت أن الجامعة العربية تعمل على إعطاء المهلة تلو الأخرى لبشار مما دعا الثوار لرفع شعار "الجامعة العربية تقتلني". وهو ما يكشف أن المؤتمر يمنح فرصة جديدة للنظام المجرم في سوريا.

وتستمر عملية تحضير البديل لبشار قبل رحيله، وبينما تدفع أمريكا وأبواقها نحو النموذج اليمني للحفاظ على صبغة النظام السوري وتبعيته العريقة لأمريكا، من خلال تركيا والجامعة العربية وتعمل على تسويق المجلس الوطني السوري، وهيئة التنسيق الوطنية السورية، في تنافس واضح مع القوى الأوروبية وأبواقها، التي تسعى إلى تمكين المجلس الوطني وعدم انتظار تسويقه لدى الشعب السوري، مما يكشف عن صراع على النفوذ بين القوى الدولية رغم الاشتراك في المؤامرة ضد الأمة.

إن الحقيقة الساطعة أن الغرب الاستعماري قد نصّب الحكام على رقاب الأمة طيلة العقود الماضية تحت شعارات ثورية صاخبة، ولمّا استيقظت الأمة ونهضت من كبوتها تصرخ أنها لن تقبل بالاستبداد بعد اليوم، ها هو الغرب يحاول إعادة تشكيل استعماره من خلال أنظمة "ثورية" جديدة، تقبل الغرب صديقا، فيما تعادي من يثور ضد ذلك الاستعمار الغربي ومن يرفض التدويل، وتعتبره ظلاميا أو سلفيا أو متطرفا (أو جرثوميا حسب تعبير الرئيس التونسي) لأنه يستند إلى "الإسلام السياسي" أو الجهادي، فهم يريدون دولة مدنية لا تحمل من الإسلام إلا شعارات عامة.

 

وإنه لمن المعلوم لكل واع مخلص أن دعوى المساعدات الإنسانية هي الغطاء الذي يتخذه الغرب الاستعماري لتحقيق مصالحه وتنفيذ برامجه، كيف لا والغرب المتصارع على المصالح هو الذي ينهب ثروات أفريقيا ومواردها الهائلة ويترك ناسها عُظيمات تكسوها بعض اللحوم الجافة !

وتتحالف قوى الغرب في أمريكا ضد نهضة المسلمين، ويريد هؤلاء "الممثلون" أن يَكفُر أهل الشام بهذه الحقيقة. وإذ ترفع سواعد الثائرين في الشام لواء الإسلام، يمزّق جنود أمريكا القرآن، ويريد "الممثلون" اعتبارهم "أصدقاء"؟ وإذ تردد حناجر الثائرين "لن نركع إلا لله"، يريد هؤلاء الممثلون أن يركعوا لفرنسا ولقيمها، وهي تعتبر الزي الإسلامي بغيضا يجب منعه، وتعتبر أن من حق صحيفة فرنسية ساخرة أن تسخر من رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، وأن يقف وزير خارجيتها مدافعا عن حق الشتم !

والخلاصة أن هنالك نضالا ضد الاستعمار ... وهنالك نضال من أجل إعادة إنتاج الاستعمار، ولا يعني حمل وصف "المعارضة" تبني دعوة حقيقية للتحرر: فقد مات القذافي وهو يعتبر نفسه ثائرا ضد الاستعمار، ولا زال بشار يعتبر نفسه ممانعا.

وأمام هذه الهجمة السياسية الفاضحة لا بد من توجيه دعوة للتحرر من "الاستحمار" الوطني ضمن مسيرة التحرر من الاستعمار الأجنبي، قبل أن تنجح تلك "المجالس الوطنية" المشكلة على عين الغرب وبصره من خطف الثورات وبيع الثوّار في مزاد علني.

24-02-2012