قضية فلسطين-7

دولة صهيونية مارقة في مقابل أنظمة ومنظمة مستخذية

الدكتور ماهر الجعبري

يتناول هذا المقال عرض الحالة السياسية في مطلع الثمانينات من القرن الماضي وذلك ضمن سلسلة "قضية فلسطين"، حيث يتناول المفاعيل السياسية للاحتلال اليهودي لجنوب لبنان، وانعكاسات ذلك على قضية فلسطين.

مع نهاية السبعينات، أُسدل الستار على السادات واكتملت فصول مسيرته بمقتله من قبل جنود عبروا عن غضبة الأمة ضد الاعتراف بالاحتلال اليهودي، وذلك رغم محاولات السادات تجنيد مشايخ الأزهر لشرعنة "خيانة الاعتراف بالكيان اليهودي والصلح معه"، واستمرت الجامعة العربية في التجاوب مع متطلبات المكائد التي تحاك ضد قضية فلسطين، وفي تجهيز منظمة التحرير الفلسطينية للتفاوض، فتطور وضع المنظمة السياسي في المنطقة والعالم نحو التعامل معها كأنها دولة، ولكن الدولة اليهودية ظلت رافضة للتفاوض مع المنظمة، وخصوصا مع بروز قادة حزب الليكود الأكثر تطرفا، والذين لم يوقعوا معاهدة السلام مع السادات إلا تحت الضغط من أمريكا.

بعد قرار عزل مصر من قبل الجامعة العربية نتيجة توقيع الصلح "المنفرد" مع "إسرائيل"، خفّ الحضور المصري على الساحة الإقليمية، وذلك بعدما تمكّن السادات من استكمال مخطط الحرب التحريكية عام 1973، والتي وجدت الإدارة الأمريكية فيها فرصة تحقيق منجزات تحفظ لها صورتها العالمية، وتخدمها داخليا في الانتخابات الرئاسية. ولم تتبقّ من انعكاسات لتلك الجبهة على تطورات قضية فلسطين السياسية غير مسألة تنفيذ الانسحاب "الإسرائيلي" المتفق عليه من سيناء في نيسان 1982،  وفي مقابل ذلك ازداد اشتعال الجبهة الشمالية، وتوجهت الأنظار والأعمال العسكرية والسياسية إلى لبنان.

ومع نهاية السبعينات، وبعد مرحلة من الضعف، كانت بريطانيا قد استعادت بعض العافية السياسية وحاولت من جديد فرض حضورها الدولي وعاد الصراع الأنجلو أمريكي على المصالح في المنطقة يشتد. ومع مطلع الثمانينات، كانت بريطانيا قد أعادت طرح مشروعها السياسي حول إقامة الدولة العلمانية ولكن بملامح جديدة، وتوجّهت لفكرة إقامة كيان فلسطيني على الأرض التي تنسحب منها "إسرائيل" من الضفة والقطاع حسب القرار 242، بحيث يتحد فدراليا مع الأردن من الناحية الإدارية بينما يبقى تحت النفوذ "الإسرائيلي" من الناحية العسكرية، وبجعل القدس عاصمة مشتركة للكيان الفلسطيني وللدولة اليهودية، وتبقى مدينة موحدة. وتوافقت منظمة التحرير الفلسطينية مع الملك حسين على هذا المشروع. وصارت تحركات الملك حسين ضمن هذا المشروع.

بالترافق مع التحركات السياسية للمسيرة السلمية مع السادات، كانت "إسرائيل" قد أقدمت على غزو جنوب لبنان في آذار عام 1978، تحت ذريعة العملية الفدائية الكبيرة التي وَقَعت في 11/3/1978، والتي شوّشت حينها على مسيرة كارتر، بينما هدفت "إسرائيل" من ذلك الغزو -في حينه- جرّ سوريا للاشتباك العسكري معها، من أجل ضربها، ومن أجل خدمة المعادلات الداخلية في لبنان، وذلك بعدما نشطت بريطانيا من جديد في التدخلات إثر تحسّن أوضاعها الاقتصادية والسياسية. وتكررت الاعتداءات "الإسرائيلية" على لبنان، مثل ضرب قوات الردع السورية في صنين وفي زحلة، وقصف الطائرات المروحية السورية وإسقاط طائرتين، بتاريخ 28/4/1981.

وظلّت فكرة ضرب سوريا حاضرة في العقلية "الإسرائيلية" في تلك الفترة للعديد من الأهداف: منها خلط الأوراق للتخلص من الضغوط الأمريكية للسير في المسيرة السلمية، ومنها الانفلات من التزامات الانسحاب من سيناء حسب ما قررت اتفاقية السلام. وتحسّبت أمريكا مرارا من تنفيذ الدولة اليهودية مخطط ضرب سوريا الموالية لها وخلط الأوراق، وخصوصا خلال مرحلة انشغال أمريكا بالانتخابات، والتي تكون فيها كالبطة العرجاء، ولذلك دفعت أمريكا سوريا لان تعقد معاهدة تعاون مع روسيا من أجل لجم "إسرائيل".

ولكن الدولة اليهودية المارقة استمرت في عربدتها دون رادع، خصوصا بعدما تخلّت الأنظمة العربية عن تحريك الجيوش ضد الكيان اليهودي. وفي هذه الأجواء ضربت الطائرات "الإسرائيلية" المفاعلات النووية العراقية في حزيران 1981 دون أن تتصدى لها أو ترصدها أي من القوات في الأردن والسعودية والعراق.

وتتابعت الجرائم اليهودية في لبنان، بعدما استعادت الدولة اليهودية شهيتها للقتل وإراقة دماء المسلمين بعد اتفاقية كامب ديفيد، فاجتاحت لبنان في حزيران 1982، ضمن خطة منسقة مع أمريكا، وذلك بعدما طَمْأنت "إسرائيل" أمريكا على عدم ضرب سوريا، إذ أعلن شارون "أن السبب هو دفع منظمة التحرير الفلسطينية وصواريخ الكاتيوشا إلى مسافة 40 كيلومتر عن حدود إسرائيل" (حرب لبنان 1982). ووافقت أمريكا على الخطة، وكان هنالك دور واضح لوزير الخارجية الأميركي ألكسندر هيج، الذي قال لشارون: "إننا نفهم أهدافكم ولا نستطيع أن نقول لكم لا تدافعوا عن مصالحكم"، ولكنّه مع ذلك طلب من شارون ضرورة حصول "استفزاز واضح يعترف به العالم" لتبرير الهجوم، وهو ما تحقق في محاولة اغتيال السفير "الإسرائيلي" في لندن في 3-6-1982 (حرب لبنان.. الاجتياح "الإسرائيلي" للبنان عام 1982).

وحيث أن "إسرائيل" ادّعت في البداية حصر غاية الاجتياح بتدمير القدرات القتالية للفلسطينيين ودفعهم عنها، "كانت سوريا في الأيام الأولى للاجتياح لا تزال تعتقد كما اعتقد الجميع أن العملية الإسرائيلية ستكون محدودة" (حرب لبنان.. الاجتياح "الإسرائيلي" للبنان عام 1982). ولذلك بقيت سوريا "شبه متفرجة" –خصوصا في بداية الاجتياح- فيما ظلّت –كعادتها- تخوض الحرب "كلاميا" على وسائل الإعلام، وتصمت عن قتل المسلمين، وعن جرائم آلة الحرب "الإسرائيلية". وقد كتب متطوع في صفوف المقاومة الفلسطينية (خالد محمد ضمن مقال شاهد عيان على حرب لبنان 1982): "كانت حرب 1982 وصمة أخرى في جبين نظام الأسد" ..."قد شهدت بعيني كيف كانت مدرعات العدو تدخل من محاور يسيطر عليها الجيش السوري، فتقوم بمحاصرة القوات الوطنية المشتركة في الجبل وبعدها في البقاع. كانت حجة الضباط السوريين الالتزام بوقف إطلاق النار، مع أن القوات الإسرائيلية كانت تخرق اتفاق الهدنة دوما وتتقدم عبر الخطوط السورية دون أن تلقى مقاومة تذكر".

وبالطبع، لم تلتزم "إسرائيل" بالأهداف المنسّقة مع أمريكا، بل عدّلتها، ولذلك تفاجأ الأسد بمدى الغزو، إذ كان "يتوقع عمليات إسرائيلية ضد الفلسطينيين ولكن لم يتوقع من ضمن القوات السورية" (حرب لبنان.. الاجتياح "الإسرائيلي" للبنان عام 1982). ولم تدخل القوات السورية بشكل واضح في القتال إلا بعدما قصف الجيش "الإسرائيلي" عدة بطاريات للصواريخ السورية من التي كانت سوريا قد نصبتها في لبنان.

وأعلن الناطق الرسمي للحكومة "الإسرائيلية" آفى بارنز أن الأهداف تشمل "إجلاء كل القوات الغريبة عن لبنان ومن ضمن ذلك الجيش السوري". وهو ما استفز الإدارة الأمريكية حيث أرسل الرئيس الأمريكي ريغان رسالة إلى رئيس الوزراء "الإسرائيلي" بيغن يستنكر فيها الاشتباك مع السوريين، وأعرب فيها عن شعوره "ببالغ القلق نتيجة للتقارير الأخيرة"، وقال فيها مخاطبا بيغن: "لقد تجاوزت قواتكم كثيرا من الأهداف التي أبلغتمونا بها. وقد تكون المزايا التعبوية ظاهرة ولكن الحاجة الأكثر أهمية هي تفادي نشوب حرب أوسع باشتراك سوريا، وربما باشتراك السوفيت أيضا"، ودعاه فيها لقبول وقف إطلاق النار المؤقت، وهدده أن الرفض "سوف يخلق توترا شديدا" في العلاقات بين أمريكا و"إسرائيل" (حرب لبنان 1982).

وتصدى رجال التنظيمات والمقاومة ببسالة للهجوم "الإسرائيلي"، وبرهنوا أن تهشيم أنف الدولة المارقة المتغطرسة متيسر عندما يكون القتال بإخلاص. وفي مقابل ثباتهم وبطولتهم، كان ياسر عرفات يرى ما بعد الحرب من انبطاح، ويُدرك وُجهته نحو التحضير للانخراط في المسيرة السلمية، إذ كان يدرك تماما خطة المرور عبر الكفاح المسلح –كجسر- نحو العمل السياسي والدبلوماسي، كما تضمن خطابه في هيئة الأمم المتحدة عام 1974 (الذي سبق ذكره في المقال السابق ضمن هذه السلسلة)، وكان يستشرف ما ستؤول إليه الأمور من إخراج الفدائيين من جبهة القتال في لبنان، ولذلك تابع التحركات السياسية والتصريحات التي تفيد أنه يقبل بالسلام على أساس الاعتراف بالدولة اليهودية، وذلك في مرحلة مبكرة:

وكانت وثيقة صادرة عن مكتب وزير الخارجية الأمريكي قد ذكرت في 4/9/1979: "ويبدو أن عرفات مستعد لتجاهل العناصر المتشددة في المقاومة الفلسطينية وفي منظمة التحرير" ..."[وهو] يبعث إلينا بإيماءات صريحة بأنه على استعداد للاعتراف بحق إسرائيل في الوجود إذا جرى اعتراف أمريكي بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم". (هيكل، المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل، ج3، ص110، 111. وتحمل الوثيقة السرية رقم (12065) ضمن مسار علاقة حركة فتح بالولايات المتحدة الأمريكية). وهذه الوثيقة تشير أن "العناصر المتشددة في المقاومة الفلسطينية" والمخلصة منها كانت حجر عثرة تَوجّب تجاوزها أو القضاء عليها.

 ولم تتوقف الاتصالات السياسية بين المنظمة وأمريكا خلال اجتياح لبنان، حيث تم "تبادل رسائل بين الإدارة الأمريكية وياسر عرفات حول ضرورة تخلي المنظمة عن الكفاح المسلح، والقبول بالقرار 242 والموافقة على الخطة الأمريكية لخروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت، مقابل إجراء الحوار العلني مع المنظمة" وذلك عبر فيليب حبيب (مسار علاقة حركة فتح بالولايات المتحدة الأمريكية). ثم التقى عرفات في بيروت في 25/7/1982 بوفد من أعضاء الكونجرس (منهم بول مكلوسكي)، وكان مستعدا للتجاوب السياسي معهم، فوقع عرفات على وثيقة كتبها بخط يده بالإنجليزية، اعترف فيها بجميع قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بفلسطين، واعترف فيها رسميا بحق "إسرائيل" في الوجود، مما جعل خبر ذلك التوقيع يتصدر كافة وسائل الإعلام في العالم.

كان التوقيع على ما عرف بوثيقة مكلوسكي من أقوى علامات الاعتراف بالكيان اليهودي حتى حينه، ويعتبر ذلك التوقيع من قبل عرفات تخليا عن السير ضمن الرؤية البريطانية الأساسية القائمة على حل الدولة الواحدة (العلمانية التي تجمع العرب واليهود في توازن طائفي)، وخطوة للأمام نحو تبني مشروع حل الدولتين (الأمريكي)، وحصل ذلك التطور السياسي بعدما كانت بريطانيا قد توجهت نحو إقامة كيان فلسطيني متحد فدراليا مع الأردن (كما ذكر أعلاه).

وبعد توقيع عرفات على وثيقة مكلوسكي، قدّم الرئيس الأمريكي ريغان ضماناً شخصياً للمقاتلين الفلسطينيين بالحفاظ على أمن عائلاتهم إذا ما غادروا إلى تونس، وضغط على القيادة "الإسرائيلية" للموافقة على خروج المقاتلين، ووافق ياسر عرفات على إخراج الفدائيين من لبنان رغم معارضة العسكريين في القيادة الفلسطينية، ولم يستطع الرافضون منع إخراج ما يزيد عن 14000 مقاتل من بيروت، وذلك تحت حماية دولية مشتركة (أمريكية-فرنسية- إيطالية) (حرب لبنان 1982).  وكان ذلك الخروج بداية لمرحلة جديدة، حيث تم لعرفات ما أراد من تعبيد الطريق نحو العبور إلى الحلول السلمية والعمل السياسي.

لم تكن للتعهدات الأمريكية حول حماية اللاجئين الفلسطينيين، قيمة في حماية ألوف الفلسطينيين من الذبح والقتل وهتك الأعراض في صبرا وشاتيلا في أيلول 1982، وظلت تلك المذابح شاهدة عبر التاريخ على وحشية الكيان اليهودي ومن تآمر معه، وظلّت دليلا صارخا على استرخاص دماء المسلمين عند أمريكا ناكثة العهود، والتي كانت على علم مسبق بخطورة الوضع، كما أكد موريس دريبر (موفد الرئيس الأميركي إلى لبنان) إذ كشف عن اتصاله بإدارته عشية المذبحة منبّها، فقال: "قبل ذهابي إلى جنازة بشير، أبلغت واشنطن بما يحدث، وبأن الوضع في غاية الخطورة" (حرب لبنان .. مجزرة صبرا وشاتيلا ج10).

وخلّف خروج المقاتلين من بيروت بقرار من عرفات مشاعر إحباط وتذمّر لدى عدد من العسكريين (من الذين لم يكونوا متورطين في المكائد السياسية في المنظمة)، وعبّروا عن رأيهم ضد ذلك الخروج، منهم  سعد صايل وأبو موسى وواصف عريقات، ويُنقل عن سعد صايل (الذي استشهد في أيلول 1982) (في ذكرى اغتيال القائد "أبو الوليد" نقول لأبناء فتح)، أنه قال لياسر عرفات وقيادة المنظمة السياسية "إن قرار الخروج من بيروت هو قرار سياسي وليس قرارا عسكريا"، وأكد على القدرة على رد "الجيش الإسرائيلي".

وعلى خلفية تلك الغضبة على إخراج المقاتلين، ونتيجة لهث قادة المنظمة خلف التفاوض مع الاحتلال، وكمحصلة لسيطرة العمل السياسي والدبلوماسي على المنظمة (التي تأسست لاحتواء المندفعين للكفاح المسلح)، حصل تمرد بين بعض قادة فتح في البقاع تحت اسم الحركة التصحيحية، وذلك في صيف 1983. إذ احتجّ "المتمرّدون" على قرار ترقية ياسر عرفات لمن كانوا متورطين في الفساد والتقصير، مما اعتبروه مكافآت للمقصرين في مقابل عقوبات في حق المخلصين، وحصل انشقاق في حركة فتح، وباركت سوريا ومن ورائها أمريكا ذلك الانشقاق عندما وجدت فيه فرصة لاستمالة المنشقين، واستطاعت سوريا أن تحتوى المنشقين، ومن ثم حشرتهم ضمن أجنداتها.

***

وكانت مرحلة حكم كارتر لأمريكا حرجة اهتزت فيها صورة أمريكا، وجاء ريغان من بعده محاولا إعادة الهيبة والاعتبار لأمريكا، وسخّن ريغان الخطاب الأمريكي عالميا، وتوافقت تلك المرحلة مع إخراج المنظمة من لبنان بعد الاجتياح "الإسرائيلي". ونتيجة تفاقم إشكالات التنسيق بين أمريكا وإسرائيل" فيما يتعلق بأهداف حرب لبنان، تم تغيير وزير الخارجية لأمريكي، بعدما استقال هيج، فخلفه شولتز، وتحرّك شولتز مباشرة بمبادرة سلام، تبنّاها الرئيس ريغان كمشروع أمريكي للسلام في الشرق الأوسط (مشروع ريغان)، وكانت تلك المبادرة خطوة تالية لإخراج المنظمة من لبنان.

عرض ريغان مشروعه في أيلول 1982 ضمن خطاب بث في الإذاعة والتلفزيون الأمريكيين خُصص لمعالجة قضية فلسطين والشرق الأوسط، ورفض فيه فكرة إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، بل طرح –بديلا عن الدولة- "إقامة حكم ذاتي كامل للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة يديرون فيه شؤونهم الخاصة". وبذلك لم يخرج مشروعه عن إطار اتفاقيات كامب ديفيد التي اعتبر أنها "لا تزال تشكل أساس" السياسات الأمريكية. وتضمّن مشروعه "إجراء انتخابات حرة لاختيار سلطة فلسطينية للحكم الذاتي"، تهدف إلى "إثبات أن الفلسطينيين قادرون على حكم أنفسهم، وأن مثل هذا الحكم الذاتي لا يشكل تهديدا لأمن إسرائيل". ويكون الحكم الذاتي مرتبطا بالأردن. (ومن الجدير هنا ملاحظة أن ما يشاهد الآن على الأرض هو تعبير عملي عن مشروع ريغان، رغم عدم استخدام تعبير "الحكم الذاتي"، فيما عدا الربط مع الأردن، الذي يدندن البعض حوله أحيانا).

وتضمن مشروع ريغان مباشرة المفاوضات من أجل "التوفيق بين المطالب الأمنية المشروعة لإسرائيل والحقوق المشروعة للفلسطينيين"، مع دخول منظمة التحرير الفلسطينية بالتنسيق مع الأردن (كمظلة سياسية تفاوضية).

وحيث أن ريغان ربط الحكم الذاتي فدراليا مع الأردن، حصل التقاء حول فكرة الربط في الساحة الدولية والإقليمية (وموضوع الربط مع الأردن كان محل توافق مع فكرة بريطانيا التي تجددت مطلع الثمانيات)، ولذلك تسارعت التحركات السياسية –في حينه- وتصاعد الضغط على "إسرائيل" لعقد مفاوضات مباشرة، ولكن القيادات "الإسرائيلية" من حزب الليكود ظلّت تؤكد رفض مبدأ الانسحاب إلى حدود عام 1967، ورفض التفاوض مع المنظمة، ولذلك عارض بيغن مشروع ريغان، واعتبر "أن ريغان تجاوز مرحلة الصداقة"،. وظلت "إسرائيل" تقاوم التهديد بفرض العقوبات لإجبارها على الموافقة. بل وصرّح وزيره شارون بأنه "سيحل القضية من خلال جنازير الدبابات"، مما هو سير على العنجهية اليهودية والتمرّد الصهيوني ضد محاولة تحجيم دولتهم.

وجاء خطاب ريغان الذي أعلن فيه مشروعه قبل أيام من قمة فاس في المغرب (مؤتمر القمة العربي الثاني عشر في 6-9/9/1982). ولا بد هنا من الربط بين مشروع ريغان وبين مع ما طرحه الملك فهد على تلك القمة:

كان الملك فهد بن عبد العزيز قد طرح على العرب مبادرة سلام سعودية تحت عنوان "مبادرة الأمير فهد" وذلك في 7-8-1981، كردة فعل بعد زيارة وزير الخارجية الأمريكي للشرق الأوسط (هيغ). ووضع فهد مبادرته –في حينه- بصيغة توفيقية ليجعلها مقبولة من كل الأطراف الدولية والإقليمية بما فيها قادة منظمة التحرير، ثم تحولت المبادرة إلى مشروع الملك فهد للسلام في الشرق الأوسط، ثم أصبح مشروعا للسلام العربي، بعدما حشد فهد لمشروعه التأييد العالمي والإقليمي، وأعلنت المجموعة الأوروبية أن المبادرة تشكل أساسا للتفاوض. واستندت معظم بنود مشروعه الثمانية إلى قرارات الأمم المتحدة، وقد تضمن الاعتراف باحتلال فلسطين حيث نص البند السابع منه على "تأكيد حق دول المنطقة في العيش بسلام". (حرب لبنان 1982).

إذن، جاءت قمة فاس تجاوبا مع طرح مشروع ريغان، وتلبية لمشروع الملك الفهد التوفيقي، فحصل الملك فهد على الغطاء العربي الرسمي في قمة فاس والتي عقدت على مرحلتين (في تشرين الثاني 1981 وفي أيلول 1982) (تاريخ القمم العربية). وتمخضت القمة عن اعتراف الحكام ومنظمة التحرير بحق "إسرائيل" في الوجود. فيما رد شارون على انبطاح العرب في قمة فاس بمحاصرة مخيمات صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين بعد أيام من عقد القمة (رغم التعهدات الأمريكية بحمايتهم كما ذكر أعلاه) وذلك في 16/9/1982.

إن مبادرة الملك فهد تؤكد أن النظام السعودي –صاحب المشروع- ظل متسترا بالإسلام فيما كان دائما مبادرا لطرح برنامج الاعتراف بالكيان اليهودي والسير ضمن مشاريع تصفية القضية الفلسطينية، وأن الملك فهد كان أحد العرّابين الذي عملوا ضمن مسيرة الاعتراف بدولة الاحتلال اليهودي، والدافعين للسير ضمن مشاريع تصفية القضية الفلسطينية.

وفيما لم تتقدم مشاريع حلول قضية فلسطين رغم تلك المشاريع والمبادرات، حصلت مفاوضات بين "إسرائيل" ولبنان برعاية أمريكية مع نهاية العام 1982 وحتى ربيع 1983، وذلك ضمن أجواء احتاجت فيها أمريكا تثبيت مصداقيتها الدولية، ولتكون ورقة سياسية للرئيس الأمريكي ريغان في الانتخابات الرئاسية في حينه. وضغطت أمريكا على "إسرائيل" وفرضت عليها توقيع "اتفاقية سلام" عرفت بمعاهدة 17 أيار، والتي نصّت على إلغاء حالة الحرب والانسحاب الإسرائيلي الكامل من لبنان، وإنشاء منطقة أمنية داخل الأراضي اللبنانية تتعهد الحكومة اللبنانية بأن تنفذ ضمنها الترتيبات الأمنية، (ولكّن تلك الاتفاقية لم تصمد، حيث واجهت رفضا شعبيا كبيرا، وتصاعدت العمليات العسكرية من قبل المقاومة، ثم تم الإعلان الرسمي في لبنان عن بطلانها في 5/5/1984 (معاهدة 17 أيار)).

وهكذا سيطرت جرائم الاحتلال اليهودي للبنان ومذابح المسلمين فيها على المعالم السياسية لمطلع الثمانينات، وتميزت تلك الفترة بالمعالم التالية: