قضية فلسطين-10

مؤتمر مدريد لوحة استعراضية تخفي اتصالات سرية

الدكتور ماهر الجعبري

يتناول هذه المقال عرض مستجدات قضية فلسطين على مدخل عقد التسعينات من القرن الماضي، وذلك ضمن سلسلة "قضية" فلسطين.

في ظل إصرار "إسرائيل" على رفض فكرة الانسحاب، ورفض مبدأ التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية، ونتيجة عدم تمكّن أمريكا من ترويض شامير وحزب الليكود رغم التنازلات المتلاحقة من عرفات والمنظمة، ظلت قضية فلسطين محل شد وجذب خلال عقد الثمانينات دون تقدم ملموس على الأرض، غير النجاح في تحويل منظمة التحرير الفلسطينية إلى كيان سياسي بعد تصفية الكفاح المسلح. ومع تذبذب علاقة المنظمة بالأردن بين الوفاق والفراق، حاولت "إسرائيل" خلق وضع جديد من خلال مشروع الإدارة المدنية للفلسطينيين، إلى أن فاجأت الانتفاضة جميع الأطراف عندما اشتعلت بعفوية فأشعلت الأجواء، وصار الجميع يحاول تجييرها لصالحه. وظلّت "إسرائيل" تستغل الأجواء السياسية والشعبية لمقاومة الحراك نحو الحلول السلمية، بل وتصاعدت نبرة حديثها حول الأردن كوطن بديل للفلسطينيين، فقام الأردن بفك الارتباط مع الضفة الغربية عام 1988، بعد فشل التحركات حول الكيان الفلسطيني-الأردني المشترك.

وكان الحديث عن عقد مؤتمر دولي للسلام قد تصاعد في المحافل الدولية خلال عقد الثمانينات، وصارت منظمة التحرير الفلسطينية تحرص على أن تكون طرفا فيه، وبرزت في هذا السياق ما عرفت "بمبادر السلام الفلسطينية"، وفتحت أمريكا الحوار مع المنظمة، واستبقت "إسرائيل" التحركات الأمريكية بدفع مشروع شامير للحكم الذاتي مع نهاية 1989، وذلك في محاولة لاستنساخ اتفاقية كامب ديفيد في شقها الفلسطيني، حسب رؤية حزب الليكود. وكانت هنالك بوادر رضوخ للمنظمة للقبول بكيان مسخ (حكم ذاتي)، وتَنقل بعض المصادر أنه تم في العام 1990 "عقد اجتماع سرِّي في فيلا خاشقجي بباريس بين أريل شارون وبسام أبو شريف ومروان كنفاني كان على جدوله إقامة حكم ذاتي فلسطيني في قطاع غزة" (مشاريع التسوية السلمية للقضية الفلسطينية)، وقد أكد شلايل-سفير دولة فلسطين بالسودان وجود قناة اتصال سرية مع "إسرائيل" تولاها بسام أبو شريف (أنظر المفاوضات السرية في أوسلو.)

صحيح أن ذلك اللقاء السري (الرسمي) غير موثق لدى محمود عباس في كتابة طريق أوسلو، إلا أن عباس يعترف -بكل صراحة ووضوح- بالاتصالات السرية بين رجالات المنظمة وبين "الإسرائيليين"، ويوثق تاريخها الذي يُرجعه إلى مراحل مبكرة من نشأة منظمة التحرير الفلسطينية، إذ يذكر كافة تفاصيل اللقاءات التي جرت منذ السبعينات من القرن الماضي. ويؤكد عباس أنه رفع في فترة السبعينات شعار "العمل على الاتصال بالقوى الإسرائيلية لإجراء حوار معها للوصول إلى السلام"، بينما ووجه بهجوم عنيف من مختلف الأوساط.

ويتحدث عباس –في كتابه- أنه أوقع بكلٍ من سعيد الحمامي، وعز الدين القلق ونعيم خضر وعصام سرطاوي في تلك المصيدة (وهذا الوصف ليس له). ويسرد الاتصالات التي أجراها عصام السرطاوي في تلك الفترة (بتعليمات مباشرة من عباس)، ويبيّن أن عباس أقنع المجلس الوطني في دورته الثالثة عشرة عام 1977 بجدواها، ومن ثم يذكر عباس القرار الإيجابي الذي اتخذه المجلس الوطني الفلسطيني حول أهمية العلاقة والتنسيق مع القوى اليهودية الديمقراطية والتقدمية، ويبيّن أهمية التأكيد عليه مرارا ضمن دورات المجلس الوطني في الأعوام 1981 و1982 و1987 و1988، مما جعل تلك الاتصالات السرية "ذات طابع شرعي محمي بالقرار الصادر عن المجلس الوطني الفلسطيني".

وهو بذلك يكشف عن نهج راسخ لدى منظمة التحرير في لهثها نحو الاعتراف بدولة "إسرائيل" ونحو التواصل السياسي مع قادتها، حتى عندما كان المزاج الشعبي العام يخوّن من يجري تلك الاتصالات. ويقول محمود عباس: "بعد عام 1977، عقدنا عشرات اللقاءات وحضرنا عشرات المؤتمرات التي تضم "إسرائيليين من مختلف الاتجاهات". وذكر منها لقاء ضمّه في موسكو مع فيلنر أمين عام الحزب الشيوعي الإسرائيلي بعد اجتياح لبنان عام 1982. وذكر الاتصالات التي أجراها أبو إياد في المجر عام 1983 مع حركة السلام الآن، وأكّد وجود توافق معهم على فكرة السلام وعلى سرية اللقاء.

وتتابعت اللقاءات المخزية مع اليهود، وتكثّفت قبل وأثناء الانتفاضة الأولى، فيما كانت الشعارات التضليلية تقول: "لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة".  وهنا يؤكد عباس أن صوته التفاوضي علا فوق صوت الانتفاضة ولكن دون ضجة إعلامية، إذ يبين أن عدة لقاءات مع حركة السلام ومع اليهود الشرقيين تمت في رومانيا في 6-11-1986، وفي هنغاريا في 12-6-1987، ومن ثم يتحدث عن الاجتماعات التي حصلت في مدينة طليطلة (الأندلسية) بين وفدين فلسطيني وإسرائيلي في تموز عام 1989. ويذكر أيضا اللقاءات التي تمت مع اليهود الأمريكان عام 1988 في السويد (والتي تمخض عنها وثيقة استكهولم التي ذكرت في الحلقة السابقة من هذه السلسلة). وذكر عباس الزيارة السرية التي قام بها تسوكر عضو حركة راتس (الذي تحول إلى حركة ميرتس) إلى تونس عام 1987.

ثم يسرد عباس اللقاءات السياسية مع جهات من حزب الليكود ومن حزب العمل عبر وسطاء وعبر فلسطينيين من الداخل، مثل اللقاء الذي حصل في تموز 1987 في بيت موشيه عميراف (رجل الليكود القريب جدا من شامير) مع سري نسيبة وصلاح زحيقة، بوساطة يهودي شرقي، ثم اللقاء الذي تبعه في بيت فيصل الحسيني في القدس، وأن تلك اللقاءات كانت تهدف إلى بلورة ورقة لياسر عرفات، وأن شامير اعترف بأن أحد اللقاءات كان بعلمه.

ويتحدث عباس عن اللقاءات غير المباشرة مع حزب العمل، عبر عبد الوهاب الدراوشة –من الأرض المحتلة عام 48- وذلك في العام 1989، والذي زار عرفات في تونس حاملا مشروعا سياسيا، وضعه اسحق رابين (ولم يكن في الحكم حينها)، وهو نفسه المشروع الذي تبلور في اوسلو، كما يبين محمود عباس لاحقا. ويذكر عباس أن فكرة الكونفدرالية مع الأردن عادت في تلك الفترة لتكون جزءا من تلك الاتصالات السرية (خلال بحث مشروع رابين) بين قيادة المنظمة وبين قيادات حزب العمل.

جرت كل تلك الاتصالات السرية في حين كانت قيادة المنظمة تخاطب الجماهير الثائرة بلغة الصمود والمقاومة، وفي حين كان الاتصال مع "إسرائيل" تهمة، وفي حين فرضت الانتفاضة تقديم الاستقالة على أفراد الشرطة الفلسطينيين (الذين كانوا يعملون قبل الانتفاضة ضمن جهاز الشرطة الإسرائيلي). وبذلك تؤكد المنظمة ورجالاتها (حسب اعترافات عباس في كتابه المذكور) أنها ظلّت تخادع ذلك الشعب المسكين، كما هي الآن. وهذه الفضائح التي تكشفت تدفع من لديه بقية من وعي أو إحساس أن يُخرج ذلك الخبَث من وعي الفلسطينيين، لا أن يعمل على "مأسسة" تلك المنظمة من جديد.

في تلك الأثناء، وعلى المستوى الرسمي، كانت أمريكا قد حاولت أن تغتنم خطة شامير لتحريك العمل السياسي نحو الحل الشامل إلا أنها لم تنجح في ترويض شامير، ولم تتمكن الإدارات الأميركية من ممارسة الضغط المؤثر على الدولة اليهودية، أو لم ترغب بذلك، لعدم نضج الرأي العام الأميركي ولعدم وجود قابلية عند "إسرائيل" للرضوخ لأمريكا على حساب ما تعتبره من مصالحها الحيوية، وإلى حد ما بسبب وجود تأثير لوجود لوبي صهيوني، ولوجود تأثير انتخابي لليهود الأمريكان.

وأمام ما كانت تلمسه من انبطاح من قادة المنظمة ومن تهافت على اللقاءات السرية، زادت "إسرائيل" في عنجهيتها ضد أهل فلسطين، ثم تمادت وصارت تهدد بضرب العراق. واستطاع شامير أن يؤلف حكومة أكثر تطرفا بمشاركة الأحزاب الدينية، من الذين يشتركون جميعا برفض السلام والصلح، لأنهم يعتبرونه ضد "دولة إسرائيل" ويهدد أمنها.

ومع مطلع التسعينات، كانت حكومة شامير منشغلة بثلاثة قضايا بعيدة عن المسيرة السلمية، وهي استيعاب هجرات اليهود من الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية والحبشة، وقضية الاستيطان، إضافة إلى القضاء على الانتفاضة في الضفة والقطاع، وهي التي مثلّت تحديا للكيان "الإسرائيلي".

وبينما كان قادة المنظمة يلهثون خلف "فتح" قنوات الاتصالات السرية، ركزت "إسرائيل" على تحريك هجرة اليهود الروس عام 1990. واستغلت روسيا تلك الهجرة للتخلص منهم، ومن أجل انطلاقة جديدة في علاقاتها الدولية، ومن أجل تحسين علاقاتها مع "إسرائيل"، تمهيدا لجرّها نحو عقد المؤتمر الدولي للسلام الذي التقت روسيا مع أمريكا حول فكرة عقده.

والتقت مصالح أمريكا مع مصالح روسيا في موضوع هجرة اليهود الروس، إذ إن وفود اليهود الروس تثقل كاهل الاقتصاد "الإسرائيلي" بتكاليف استيعابهم، وهو ما يعطي أمريكا فرصة فضلى للضغط على "إسرائيل"، من أجل دفعها للسير في المشروع الأمريكي. وفي هذا السياق، قدّمت أمريكا عرضا لتمويل توطين المهاجرين اليهود، تسخيرا لأداة الدعم المالي في العمل السياسي. إضافة لذلك فإن أمريكا ترى في هجرة اليهود الروس مصلحة استعمارية في تقوية ذلك الكيان ومده بشريان الحياة، بناء على إستراتيجية أميركا " أن إسرائيل وجدت لتبقى".

ومع تسلّم بوش الأب رئاسة أمريكا، أخذت تتبلور رؤية النظام العالمي الجديد الذي تتفرد فيه أمريكا بالموقف الدولي، فيما تسمح بتعاون دول العالم معها حسب ما تراه أمريكا وتحدده. وتزامن ذلك التفرد مع سقوط الاتحاد السوفيتي. وهو ما وفر الفرصة لتفرد أمريكا من الناحية الواقعية، بينما اقتصرت القوى الأوروبية المؤثرة في المسرح الدولي على دور عرقلة ذلك التفرّد. وكانت بريطانيا قد اعتمدت سياسة الابتعاد عن مجابهة أميركا سياسيا، وركزت على أسلوب التآمر والاعتماد على العملاء، فيما تظهر نفسها أنها تسير مع أميركا.

وظلت تحركات أمريكا في العام 1990 غير جادة مع استشعارها تأثير اللوبي اليهودي الأمريكي على أعضاء الكونغرس، وعلى رجالات الإدارة الأمريكية. وفي هذه الأجواء صدر في آذار 1990 قرار الكونجرس الأمريكي الذي قضى باعتبار القدس عاصمة "لإسرائيل". وبينما ظلت الأنظمة العربية تنتظر التعليمات الأمريكية لتحريك فرص السلام، عقدت مؤتمر القمة العربي في أيار 1990 في سياق الجعجعة الإعلامية حيث دعت فيه إلى دعم الانتفاضة الفلسطينية وإدانة الهجرة اليهودية إلى فلسطين والأراضي العربية المحتلة، وأدانت قرار الكونجرس الأمريكي اعتبار القدس عاصمة "لإسرائيل" (تاريخ القمم العربية).

ورفض بوش محاولات الكونغرس اعتبار القدس عاصمة "لإسرائيل"، بل أكّد على فكرة تقسيم القدس، كما جاء في رسالة بعثها إلى رئيس بلدية القدس نهاية آذار 1990، قال فيها: "يجب أن تقسّم القدس ثانية، هكذا كانت وما تزال سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، وتلك سياستي" (موقف الولايات المتحدة  من قضية القدس). وهو موقف تضمن إشارات حول اهتمام إدارة بوش باستعادة حل الدولتين. ولكن أمريكا بدت غير جادة في تلك الفترة بفكرة الانسحاب "الإسرائيلي" من أي جزء من الضفة أو القطاع، وغير جادة بالدفع نحو إقامة دولة فلسطينية، وظل الموقف راجحا نحو الحكم الذاتي الذي قرره كارتر في كامب ديفيد عام 1979.

وظلّت أجواء الشرق الأوسط السياسية ملبدة بالغيوم ومشحونة بالعواصف، ثم هبّت عاصفة الصحراء على أرض الخليج والعراق، وحبس العالم أنفاسه أمام مفاعيل الحرب، وتجمّد وضع القضية على حاله مطلع التسعينات، وظلت أمريكا تحرص على تحركّات شكلية، من أجل الحفاظ على الإمساك بزمام الأمور فيما يتعلق بقضية فلسطين في يدها. وانشغلت الأنظمة العربية في الخليج ومصر وسوريا والأردن بالتآمر مع أمريكا ضد العراق. ثم تمكنت أمريكا من تركيع نظام الحكم في العراق، وسحقت قوّاته في الكويت.

وأحبطت أمريكا ما خططته بريطانيا من محاولة جر "إسرائيل" إلى المعركة عندما ضرب العراق صواريخ سكود على تل أبيب، إذ ضغطت أمريكا على "إسرائيل"، وزودتها بصواريخ باتريوت، وبعشرة مليارات من الدولارات، ومن ثم منعت -بسياسة الترغيب- اصطدام الجيشين العراقي "والإسرائيلي"، مما احتمل أن يؤدي إلى تفجير الجيوش العربية وإلى تفجير الرأي العام في البلاد العربية والإسلامية ضد أميركا وضد مصالحها وضد الحكام الذين تحالفوا معها.

وأحس بوش الأب بنشوة النصر، وخرج بوش من الحرب بشعبية فريدة لم تتحقق لغيره من رؤساء أميركا، وبدأ المسرح الدولي يتجه نحو تفرّد أمريكا بدور "البطولة" السياسية. وعبّر بوش مبكرا عن تلك الرؤية عندما قال في 29/1/1991: "إن آمال الإنسانية تتجه إلينا ومن بين دول العالم فإن الولايات المتحدة وحدها تملك من المستوى الأخلاقي، ومن الإمكانيات ما يكفي لخلق نظام عالمي جديد"، ومن ثم ركّز في خطابه بعد انتهاء الحرب في 6/3/1991، على "العمل من أجل خلق فرص لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي".

وعلى إثر ذلك الظفر وتلك الشعبية، تمكّنت أمريكا من دفع فكرة المؤتمر الدولي للسلام للأمام بعدما ظلّ حديثا في الإعلام خلال مرحلة الثمانيات.  ونشط وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر في حراك جاد لتحريك العملية السلمية، وقام بجولات مكوكية في الشرق الأوسط، وتمكنت أمريكا من تجاوز عقبة إصرار حكومة شامير على رفض التفاوض مع المنظمة من خلال تكوين وفد فلسطيني من داخل الأرض المحتلة عام 1967، للمشاركة تحت جناح الوفد الأردني، وقبلت المنظمة بذلك الترتيب.

وتحدث محمود عباس في كتابه طريق أوسلو عن تواصل قادة المنظمة مع القيادة السياسية في الأردن، ومع وزير الخارجية الأمريكي بيكر فيما يتعلّق بترتيبات المشاركة في مؤتمر مدريد، فيقول "وبتاريخ 23/10/1991 أي قبل انعقاد مؤتمر مدريد بأيام، كان علينا أن نتواجد في عمان لوضع اللمسات النهائية للاتفاق الأردني-الفلسطيني"، وبيّن أن حضور الوفد الفلسطيني للأردن في ذلك الوقت كان شكليا للاستهلاك الإعلامي، فيقول: "سُلطت الأضواء على وصول وفد الحسيني. واختفى وفدنا من الصورة تماما لكي يقول بأن الاتفاق عقد مع وفد الحسيني وليس مع وفدنا".

وقبلت "إسرائيل" بفكرة المؤتمر من أجل أن تقطف ثمار التطبيع والاعتراف دون أن تدفع شيئا، ولم تقبل أي حديث أعلى من سقف "الحكم الذاتي تحت سلطتها". إضافة لذلك فقد كانت عيونها تتجه إلى أسواق العرب وآبار نفط العرب، ورؤيتها تمتد نحو التطبيع الاقتصادي ولذلك طلب شامير من وزير الخارجية الأمريكي بيكر مشاركة دول الخليج في المفاوضات، واستجاب بيكر، واستجابت دول الخليج، لتكون شاهدة زور.

وظل شامير يطلب من أميركا ضمانات خطية، ويركز على أن لا تؤدي تلك المفاوضات إلى قيام دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، ومؤكدا أنه يريد "السلام مقابل السلام"، وظلت أميركا تساير شامير وتعامله معاملة الأب لابنه الطائش، وتداريه ولا تستفزه، وخصوصا مع عدم وجود جدية كافية لديها لتحقيق الحل في تلك الفترة.

وهكذا أطلقت أمريكا المفاوضات السلمية على أساس تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 وقرار رقم 338 (وهما يعنيان ضمنيا إيجاد الدولة الفلسطينية)، وذلك ضمن مسارات ثنائية، ومسار متعدد الأطراف تشترك فيه دول العالم المؤثرة، والأطراف الإقليمية والعربية كإطار تطبيعي، وكمظلة رعاية دولية لمشروع التسوية.

تمكنت أمريكا من جمع الأطراف في مؤتمر مدريد للسلام في تشرين أول 1991، رغم قناعتها بعدم نضج الظروف للحل النهائي، وأخرجت ذلك المشهد الاستعراضي من أجل أن ترسّخ تفردها بالموقف الدولي، ومن أجل أن تقطع الطريق على الدول الأوروبية لعدم التدخل في الشرق الأوسط. وقد كان واضحا أن أمريكا لم تستهدف نتائج عملية من مؤتمر مدريد، ولذلك عنْوَن محمود عباس الفصل الخاص بالمؤتمر في كتابه طريق أوسلو بعنوان "لوحة مدريد"، تأكيدا على شكلية المؤتمر.

وإضافة للأبعاد والمصالح السياسية، حمّلت أمريكا مؤتمر مدريد إشارات حضارية وتاريخية، مستلهمة من أجواء ضرب العراق واستخذاء الحكام: فجعلت توقيت المؤتمر بعد ضرب مقدّرات العراق، وبعد شعور الأمة بالهزيمة، وربطت فيه مستقبل القضية والتخلي عن فلسطين لليهود، بتاريخ الأمة في مراحل ضعفها وأفول نجمها عن الأندلس، وتخلّي المسلمين عنها، وتقاعس أنظمة دويلات وممالك الأندلس عن الدفاع عن بلادهم.

ولم يَفُتْ محمود عباس (في كتابه طريق أوسلو) الحديث عن الإيحاءات التاريخية التي ألقت بظلالها على مؤتمر مدريد الذي وصفه بأنه محطة أولى لقطار التسوية التاريخية، وأن مخطِطَه "يغوص في بطن التاريخ ليستنتج منه المواعظ والعبر"، فقال "تعالوا نعود إلى الوراء لنرى ونقرأ ونستنتج": ثم ربط عباس توقيت المؤتمر بما حصل في الأندلس قبل خمسة قرون، وذكّر بمحاكم التفتيش التي طالت المسلمين واليهود معا، وقال: "أطراف مدريد قبل خمسمائة سنة هم أطراف مدريد بعد خمسمائة سنة، يتوزعون أدوارهم طبقا للحكمة القائلة لكل زمان دولة ورجال" ... "إنهم الذين رفعوا لكم المقاصل ليفضوا اليوم منازعاتكم وليستمعوا إلى شكواكم، ويحكموا بينكم وليقولوا لكم كفى". وتساءل "فهل نحن أمام تاريخ يعيد نفسه؟ أم تاريخ لا يعرف نفسه؟"

ولم تحدث انطلاقة مؤتمر مدريد للسلام تغييرا عمليا في حينه، ونقل عن شامير قوله "لا مكان لتقديم تنازلات تتعلق بالأراضي" (مجلة الوعي-العدد 56). ومع مطلع التسعينات، ساد الوسط السياسي الأمريكي جدل حول مستقبل "الكيان الفلسطيني" المقترح، فمثلا نشرت مجلة "نيوزويك" الأميركية مقالة لهنري كيسنجر في 28/01/91 (نقلتها جريدة السفير بتاريخ 31/01/91) يبين فيها كيسنجر أنه "من الصعب حشر دولتين في مثل هذه المسافة الضيقة في صيغة مثلى"، ولذلك ظل تصور إقامة الدويلة الفلسطينية مسألة نظرية في التخطيط الأميركي، وكانت غايتها أن تكون دولة منزوعة السلاح وعازلة تعزل الدولة اليهودية عن البلاد العربية، وذلك في سياق المصلحة الأمريكية الحيوية التي ربطت أمْن أميركا بأمن الدولة اليهودية، وعاد الحديث عن ربط تلك الدولة مع الأردن في اتحاد فدرالي أو كنفدرالي.

إن خلاصة المشهد على باب عقد التسعينات من القرن الماضي تمثّل في تحركات شكلية قادتها أمريكا المتفردة بالمسرح الدولي بينما لم تكن جادة في تحقيق حل الدولة الفلسطينية، أما المنظمة فقد زادت انبطاحا أمام قادة الكيان "الإسرائيلي"، وفتحت خدرها لمن أراد الدخول منهم، وكانت تغازلهم عبر القنوات السرية، بل ولهثت خلفهم تتشبث بأثيابهم، وتخطب ودّهم فيما كان الشعب يزداد التهابا ضد الاحتلال، وفيما كانت تدعي شرف المقاومة.