ما خيرُ الرجالِ سَمينُها

بقلم:- حسام الدِّين عبد الصانع

في خضم أحداث عصيبة، تَفْتَأُ ترقبُ الأبصار حلاً لما ترى، تنقضي الأيام عنهُم سِراعاً ولو نطقت لقالت:- 

ألا ليتَ لي بينَ الرجالِ دوامُ....إنَّ المُقامَ لعونِهم إقـدامُ

لا يَكاد يمر يوم إلَّا ونرى فيه من المفارقات ما يَفِزُّ لها الجبين، فمِن خطابٍ فيهِ مِنَ الحَمازَةِ ما فيهْ، أوشَكتِ الأرضُ مِن هولِ حروفِهِ تتصَدَّع، يَظُنُهُ السامعُ -للوهلةِ الأولى- كأنَّ فيهِ إشارةً لجيشٍ عَرمرَم أحاطَ عُنُقَ المُخاطَبينَ بهِ إحاطَةَ السوارِ بالمِعصم، مُحالٌ عَليهِ أن يَعود إلا حاملاً بينَ جَنبيهْ، ناصِيَةَ مُتَمرِّدٍ علا في الأرضِ وأستكبر، إلى تراجُعٍ مَلحوظ وقَفزاً عن ثوابتَ لطالما كانت صراطاً مستقيما أو خطوطا حمراءَ لا يُتَصور تجاوزها أو حتى الاقتراب منها –عند قائلها على الأقل- ما يَدفعُ المُتتَبعَ لِما يرى إلى التفكرِ ساعة، وإلى التمحيصِ والاستقراء أخرى، فالانتهاء إلى نتيجةٍ مفادُها، تُرى أَنقلبت الصورةُ أم لعلي بها أنكشفت!!! .

فبالأمس القريب كانَ الوطنُ والمواطِن على أعلى سُلَّم الأولويات بل رأسُ الأمرِ ومناطُ التضحية، وما هيَ إلا ساعاتٌ أو سويعات حتى أصبحَ ذلك الذي تبنَّى العيثَ نهجاً لبطشِه وطغيانِه فما أبقى مِن حرمةٍ لوطَنٍ أو بَعض كرامةٍ لمواطن، أصبحَ جديراً بالإشادةِ والدعمِ المديد، بل رفيقَ سلاحٍ وإن كانَ على حسابِ سفكِ الدم الحرام وتدمير البيوت على رؤوسِ ساكنيها، لا ضيرَ في ذلكَ- في نظَرِه- حتى وإن أدَّى ذلكَ إلى قصفِ وسحقِ بيوت الرحمن، فالأهَمُ مِن ذلكَ كُلِّه هو دوامُ التربُّع على كرسي الحكمِ ودوامُ اليقَظةِ مِن أن يمسَ عارضٌ بسوءٍ أركانَ النظام!!.

وفي نفس الدائرة أو قريبا منها – وعلى ذات الشاكلة- أقوامٌ لطالما تَغنَّوا بالمقاومة والكفاح المسَّلح، أوهموا الناسَ-أو أنفسهم على الأقل- أنَّه بها لا بغيرها تستردُ المقَدَّسات، وبها لا بغيرها يُثأرُ ممن سوَّلت لهُ نفسُهُ يوما أن يُفكِرَ باعتداءٍ أو احتلال لشبرِ أرضٍ كان ملكا لأمة الإسلام، فمَن كانَ مُحتلَّا غاصباً ومدنِّساً لمسرى رسول الأنام، لا أقلَّ مِن ألَّا تَقَر لهُ عينٌ أو يَسكُنَ لهُ روعٌ، فينعَمَ يوماً أو ساعةً باستقرارٍ وأمن أو اطمئنان- فيا ليتَهُم بقوا على ما هم عليه- أشعلوها خالدةً بل ماحقة لِكُلِ من تُسوِّلْ لهُ نفسهُ يوماً لفتَ أنظارِ الناسِ إلى غيرِ هذا الكلام.

فما لبثوا إلا قليلا، حتى خرجَ على الناس كبيرُهم! بِخَلعةٍ حمراءَ كَدَمِّ دُمّلي! ليقولَ بملء الفَمِ بلا أدنى حياءٍ لا مِنَ اللهِ ولا مِن عباد الله، ( نحنُ أوفياءُ للنظامِ السوري!!) ..( ما يحدُثُ في سوريا هو شأنٌ داخلي!!).

ليسَ غريباً أن نرى أو نسمعَ منهُم أو مِمَّن هُوَ على شاكلتهِم أكثرَ مِن ذلك، في زمنٍ حُقَّ فيه لأحدٍ أن يقولَ أو يستَحضِرَ قولَ سيد الخلق –صلى الله عليهِ وسلَّم- واللفظُ للبخاري قال "حدثنا آدم: حدثنا شعبة، عن منصور قال: سمعت ربعي بن حراش يحدث، عن أبي مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)". 

لكنَّ الغريبَ أن نسمعَ ونرى رأيَ العين، مَن يستميتُ دفاعاً عن هؤلاءِ وأولئك، فيُصوِرُهم للناسِ أفذاذاً غُراً لا مثيلَ لهُم، وكأنَّ ثلاثينَ شهراً أو تزيد مِن ثورات الربيع العربي في البلاد الإسلامية، لم تكُن كافيةً لكشف زيفِ كثير مِنَ الوجوه التي طالما احترفت الخداعَ والتضليلَ وقلب الحقائق، فمالِ هؤلاءِ لا يكادونَ يفقهونَ حديثاً، ألَهم قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا أم لَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا أم لَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا، أم هُم قومٌ لا يَعقِلونْ؟ .

وفي المقابل ومع تسارع الأحداث وكثرتها، وبمتابعة التفكير بنصوص الأخبار والوقائع الجارية، فإننا لا نكاد نسمعُ خبراً أو نرى حدثاً، إلّا دَلَّت صياغتهُ إن لم تنطق به، أنَّ العالمَ بأسرِه مُتجهٌ نحو خريطة سياسية جديدة، قد تُغيرُ مسارهُ تغييراً ملحوظاً إلى حدٍ ما، ذلكَ – إن صحَ لنا- أن نُجريَ مقارنةً بسيطةً بين مظاهراتٍ أو احتجاجات كانت تخرجُ قبل نحو عقدٍ أو اثنين من الزمن -على حَدِّ التقريب – فإنَّ أمثلها طريقةً كانت تلكَ التي تخرُجُ بسقفِ مطالبَ لا تتجاوزُ حدَّ المطالبةِ بتغييرِ نائبٍ أو أمينَ صندوقٍ، فإن وصلت الأمورُ جذوتها كانت المطالبةُ لا تتجاوز إقالة رئيس حكومة!! رجاءةَ أن يتحقق لهم ولو نزرٌ يسيرٌ من مطالبهم، وإن كانت لا تسدُ رمقاً  أو لا تكادُ تسمنُ أو تغني من جوع!

وبين ليلةٍ وضحاها، وبنقلةٍ نوعية تصدقُ القاعدةُ الفيزيائية – الضغطُ يولِّدُ الانفجار- لتخرُجَ بعدها المظاهراتُ والاحتجاجات مطالبةً بإسقاطِ النظامِ تحتَ نور الشمسِ بلا خوفٍ أو تردُد، فعلى سبيل المثال لا الحصر، خذ الشعبَ السوريَ وما كانَ منه، فبعدَ أربعةِ عقود من الزمن أو تزيد كان يرزحُ فيها بينَ مطرقةِ البعثِ وسندان الجوع والقهرِ والظلم، فما أن سنحت الفرصة حتى أصبحنا نرى فلولا من شبيحة الأسد ونبيحته، لا تكادُ تدرك من أين تخرجُ الأصواتُ المطالبةُ بإسقاط النظامِ – مع الأخذ بعين الاعتبار- أنَّهُ لم يبق بيتٌ في سوريا بأكملها- إلى حدٍ ما- إلَّا وقد جعلَ النظامُ عليهِ عيناً أو عيوناً لهُ ساهرةً تنقُل له الأخبارَ على اختلافها، بغيَةَ إحكام قبضتِه على كُلِّ شيء طالتهُ يَدُه وتَمكَّنَ منه، ما دَفعَ الشعب السوريَ أن يقولها مُدوِّية – الشعب ما عادت تفرق معه- فمن لم يَمُت مِنّا على فراشه، ماتَ سحقاً في أقبية السجون وفي المعتقلات الأسدية!!

وقس على ذلكَ باقي الشعوب التي اكتوت بنار أنظمتها وسجانيها، فليس بعيداً عنا الشعبُ التونسي أو المصري أو الليبيُ على اختلاف المُسمياتِ القطرية الضيِّقة الناتجة عن تقسيم الكافر المستعمر لبلاد المسلمين، فأنظمةٌ هذه حالها، كان جديراً بل آكداً على الشعوب أن تنتفضَ عليها.

وعليه فإن جوابَ السؤالِ ما زالَ شاغراً، أليسَ في الأمةِ بأسرها مَن يستطيعُ أن يُوصِلَ الأمةَ إلى بر الأمان؟ فيرتقي بها مِن شاهقٍ إلى شاهق  ومِن عَلِيٍ إلى أعلى، فيخلصها مِن ظلم العبادِ ويرتَقي بها إلى عدلِ رب العباد، لتعمَلَ معهُ ويَعملَ بها ومعها للوصولِ لحياةٍ كريمة، لا يَقعُ فيها ظلمٌ على أحدٍ، وإن وَقَعَ رُفِعَ، فلا يبقى بينَ ظهرانيها سمينٌ مُتمَرِّد يَتسلَّطُ عليها، فينهَب خيراتها ويجعل للكافرِ عليها من سبيل، فَلقد جرَّبت الأمةُ عقوداً منَ الزمنِ مضتْ ، فما أبقَت مِن حلٍ مُجَزأ إلَّا وجربَته، فما عادَ عليها إلا بِما عادَ بهِ حُنين! فَهلْ مِن عَودٍ لرشدٍ يُمكنُ لها دينها في الأرضِ وإن طالَ الزمان؟ فتعودَ السيادَةُ لها طبعاً لا ينفصلُ عنها، وقيادَةُ البشرية سجيَّةً لا تُفارقها، فَتنشُرَ العدلَ في ربوعِ الأرضِ فَتسلخَ الظُلمَ مِنَ الأرضِ كما يُسلَخُ مِنَ الليلِ النهار، أفَلم تكفِ ثمانونَ حولاً ليلاً سرمداً ، فَمَن غَيرُ اللهِ يأتينا بضياءٍ إن نحنُ أطعناهُ، فلا يَغيبُ عن مخيِّلتِنا ولو لساعة أنَّ أسمى صفاتِ أهل الإستخلافِ في الأرض الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وَصدقَ اللهُ حيثُ يقول" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور : 55].

 فلا سبيلَ لتحقيقِ ذلكَ إلَّا في ظلِّ دولةٍ عادلة، خلافةً راشدةً على منهاج النبُوَّة، يُعَز بها كُلُّ مؤمن ويُذَلُّ بها كلُّ كافرٍ، ولمثلِ ذلكَ فليتنافَس المُتنافسون. فاللهَ نسأل أن يجعَلَ ذلكَ اليومَ قريباً وأن يَرزُقنا بفضلِهِ ومَنِّهِ رؤياه إنَّ ربي على صراطٍ مستقيم.

24-1-2013