الدكتور ماهر الجعبري
 عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير - فلسطين
 
تُطل أمريكا على العالم برأس جديد يبعث تساؤلات حول حدوث تغيّر في نهجها وسياستها الخارجية، وحول واقعها وموقعها على المسرح الدولي. فقد جاءت إطلالة الرئيس اوباما على شاشة الفضائيات بوجه هادئ ونبرة دافئة، أراد منها أن تعكس طمأنينة وودا نحو العالم، ورسالة دبلوماسية نحو من كانت أدبيات أمريكا تعتبره مركزا لمحور الشر، ونحو من ظلّت أدبياته تعتبر أمريكا الشيطان الأكبر.
 
 
فهل هذا الوجه الجديد لأمريكا هو تغيّر في أسلوب إدارة السياسة الخارجية ؟ أو انقلاب على نهج الدكتاتورية "الجمهورية" التي سخّرت أيديولوجية المحافظين الجدد للتعالي على العالم ؟ حتى وصل الأمر برجالاتها إلى التهكّم على أوروبا الحليفة، ووصمِها بأنها أوروبا القديمة، وكانت تخاطب العالم بمنطق "من ليس معنا فهو ضدنا". ومنذ إعلان النظام العالمي الجديد عملت أمريكا على بسط تفرّدها على عرش العالم، دون أي اعتبار للقوى العالمية، حيث لم تتصرف كدولة عالمية أولى، بل كقوة كونية متفردة وحيدة. فهل أمريكا الجديدة تتحول اليوم فعلا نحو دبلوماسية العلاقات الدولية التي تقوم على البرغماتية، وتبرير الوسائل من أجل تحقيق الغايات الأمريكية ؟ ثم هل هذا التحول الأمريكي جبريا أم إراديا ؟
 
أسئلة كثيرة تفتحها إطلالة اوباما "الدافئة الناعمة"، والتي تكشف عن مهارة شخصية وتملّك للأدوات التي تلزم لمتطلبات المرحلة العالمية. ومن اللافت بداية، أن هذا الوجه الجديد ذا البشرة الإفريقية هو الذي يتصدر اليوم لتحسين صورة أمريكا، ومطلب "ترميم صورة أمريكا" هذا قد أقرّته العديد من الدراسات الإستراتيجية الصادرة عن مراكز التفكير والدراسات السياسية الأمريكية (Think Tanks) من مثل مركز نيكسون في واشنطن، من أجل تخفيف وطأة التراجع العالمي ومستوى قبول أمريكا بين شعوب العالم، وخصوصا شعوب الأمة الإسلامية. وهو تراجع اعتبرته تلك الدراسات دافعا إلى مزيد من المواجهة الحضارية والعسكرية من قبل تلك الشعوب، قد يؤدي (أو يؤدي حقيقة) إلى تقبّل تلك الشعوب لما تسميه التحركات الثيوقراطية أو الحركات الأصولية التي تعمل على استعادة وحدة تلك الشعوب وصهرها في نظام بديل عن الرأسمالية يستند إلى الشريعة الإسلامية.
لا شك أن أمريكا تعاني من أزمات عديدة، وان اوباما قد ورث حكما عالميا في فترة صعبة جدا بالنسبة لأمريكا والغرب، وهو مهما سخّر من مهارات شخصية ومن دبلوماسية سيبقى أمام تحديات أكبر منه ومن حزبه الديمقراطي:
 
فهذه الأزمة المالية التي تفتك بأنسجة الجسم الغربي وتنتشر في بقية جسم العالم كانتشار النار في الهشيم بلا أدنى ممانعة، ولا تنفع معها المضادات الحيوية، ولا تؤدي كل المسكنات التي تضخّها خطط الإنقاذ إلا إلى تسكين الألم، في محاولة لطمأنة المستثمرين والمستهلكين لدفعهم للدوران في عجلة الاقتصاد حتى لا تتوقف نهائيا، وبالتالي تأخير ظهور الأعراض على السطح، قبل أن يضطر الاقتصاديون في النهاية إلى إطلاق رصاصة الرحمة على هذا النظام الرأسمالي، ومن ثم البحث عن نظام جديد. وقد أقرّ العديد من الخبراء العالميين بأن لا مخرج من هذه الأزمة بناء على أسس الرأسمالية. إذاً، هي أزمة تشغل الإدارة الأمريكية وستشغلها، وتلك الإدارة الجديدة تدرك أبعادها الحقيقية بأعمق مما يتداوله الإعلام، وهي تدرك ثانيا أنها تحتاج للعالم ولقواه الأخرى لمواجهة هذا الانهيار المالي، ولا يمكن أن تتصرف بمنطق التفرد كما تصرف السلف الراحل.
 
ثم إن أمريكا تواجه ورطة عسكرية استعصت على الحل لسنوات عجاف طويلة، فلا هي تمكنت من تحقيق استقرار العراق، ولا استطاعت أن ترسخ أقدام قارزاي في أفغانستان، رغم كل التوابيت التي حملتها الطائرات عبر القاعدة العسكرية في ألمانيا نحو مدافنها المعلومة والمجهولة، ورغم كل مشاهد التعذيب والتنكيل في أبو غريب وغوانتانامو، والتي ساهمت في هز صورة أمريكا عالميا، وأدت إلى علو نبرة التشكيك برسالة العدالة والديمقراطية التي ترفعها. وها هي أمريكا تلاحظ انسحاب الشركاء وتململ الحلفاء رويدا رويدا، وبعضهم معنيّ بتوريط أمريكا. وهي لا زالت لا تملك حسم المعركة، ولا يبدو أنها ستستطيع، حتى ولو انحسرت عن العراق للتركيز على أفغانستان، وحتى لو أوكلت الخروج من مأزقها في العراق إلى توصيات تقرير بيكر هملتون الذي أوصى خيرا بإشراك إيران وسوريا (مركزيّ محور الشرّ!).
 
ثم إن أوروبا لا تريد أن تفوّت فرصة الانخراط القوي والحضور الفعّال على المسرح الدولي، لمعاودة ممارسة دور الشريك القوي وليس دور الشريك الشكلي التابع، وأوروبا تعلم - بعراقتها السياسية ودهاء بريطانيا فيها ونزوع فرنسا وألمانيا إلى العظمة وتكرار تاريخ القوة – أنها اليوم قادرة على تحريك الملفات على طريقتها، وأن أمريكا مجبرة على غض الطرف ومجاراتها. فأوروبا حركّت ملفات الصومال لمزاحمة أمريكا، وهي اليوم تحرك ملف دارفور في السودان، وتحرّك ملفات عديدة في إفريقيا، للمشاركة في كعكة خيراتها التي لا تنضب. ثم إن أمريكا قد اضطّرت، تحت وقع مثل تلك التحركات، إلى تغيير وجه باكستان، وقد تضطر أيضا إلى تغيير وجه أفغانستان، وإلى إشراك أوروبا في ملفات الشرق الأوسط.
 
وفي الجهة الأخرى من العالم، تجد روسيا التي تبحث اليوم عن استعادة دور الند الذي يحافظ على مصالحه على اقل تقدير: فروسيا تقف بقوة نحو مواجهة أمريكا في موضوع الدرع الصاروخي في أوروبا، وهي تستعد لاستعادة مسار القوة العسكرية، فقد نقلت وسائل الإعلام (مثل بي بي سي ) أن الرئيس الروسي ديمتري مدفيديف أمر بإعادة تسليح الجيش الروسي على نطاق واسع، وذلك ردا على استمرار حلف الأطلسي (الناتو) في التوسع قرب الحدود الروسية. ثم إن روسيا تتحرك لوضع أصبعها في مسار الحل للقضية الفلسطينية من خلال عقد مؤتمر موسكو المخطط بعد أشهر، والذي إن نجحت في عقده سيؤشر بوضوح على قبول أمريكا لإشراك الآخرين في معالجة قضايا العالم بعد نهج التفرّد.
 
من هنا يمكن النظر إلى أن إطلالة اوباما الناعمة لا تخص إيران لوحدها في الحقيقية، بل هي إطلالة جديدة على العالم، من منطلق الدبلوماسية والشراكة كبديل عن نهج الديكتاتورية والتفرّد.
ورغم أنه من الصعب إثبات أن الخصم الإعلامي يمكن أن يكون حليفا في الكواليس، بعجالة في ازدحام أفكار هذا المقال، ومع ذلك فمن الجدير أن نعرّج على أن طبيعة العلاقات الأمريكية الإيرانية لم تكن في الحقيقة على الوجه المطروح إعلاميا، فإيران –على أقل تقدير- هي التي ساعدت أمريكا على احتلال العراق كما كشفت بعض التقارير: فقد كان الرئيس احمدي نجاد قد شدد في أكثر من مناسبة على أن إيران مستعدة للتعاون مع الولايات المتحدة في تسوية المشكلات في العراق وأفغانستان لكن في مقابل أن تبدي واشنطن احتراما بإيران وسياساتها كما نقلت صحيفة الراية في شباط 2009، ونقلت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) على لسان جون سوارز سفير بريطانيا لدى الأمم المتحدة في 22/2/2009 أن طهران عرضت التعاون مع واشنطن لإسقاط طالبان والإطاحة بصدام، ونقلت عن هيلاري مان عضو الوفد الأميركي الذي أجرى حوارات مع الإيرانيين أن مسئولاً عسكرياً إيرانياً "قام ببسط خريطة على طاولة النقاش وحدد عليها الأهداف التي أراد أن تركز عليها الولايات المتحدة وخاصة في شمال أفغانستان"، وقالت مان «أخذنا خريطة الأهداف التي اقترحها الإيرانيون إلى القيادة المركزية للقوات الأميركية (سنتكوم) والتي اعتمدتها ضمن الإستراتيجية العسكرية للولايات المتحدة في أفغانستان". وإيران هي التي سخّرت رجالاتها المذهبية في العراق للإنحاء للعاصفة الأمريكية بل وركوب دباباتها. ثم إن الرئيس الإيراني قد صرّح معلناً "أن بلاده على استعداد لملء الفراغ الأمني في العراق حال انسحاب القوات الأميركية منه". ومن هذا المنطلق، ما كان لتقرير بيكر هاملتون أن يوصي إشراك الأعداء في الحل، لو كانوا أعداء على الحقيقة. ويبقى أن فك رموز هذه "العجمة" في طبيعة تلك العلاقات عرضة لمزيد من الكشف في مستقبل الأيام.
لا شك أن السياسة الخارجية لأمريكا "القديمة والجديدة" تقوم على مصالح حيوية لا يمكن التنازل عنها في الشرق الأوسط وفي أفريقيا وآسيا، وهي غايات ومصالح مشتركة بغض النظر عن لون الوجه الذي يسكن البيت الأبيض. ولكنّ الجديد أن أمريكا لم تعد تتفرد على عرش العالم، ولم تعد قادرة على ممارسة ديكتاتورية في العلاقات الدولية، وهي مجبرة اليوم على أن تفسح المجال لإشراك القوى العالمية الأخرى في أوروبا وروسيا والقارة الأسيوية، حيث الصين التي لا تبدو متأثرة بالأزمة الاقتصادية بنفس مستوى تأثر الغرب. وهي مجبرة على السباحة الناعمة في بحر العلاقات الدولية. ولا يبدو هذا التغيّر في الأسلوب إلا استجابة لواقعية النزول عن عرش التفرد العالمي، وهي واقعية أجبرت أمريكا على هذا النهج.
 
ويبقى السؤال حول جدوى هذا التحليل السياسي لنهج وموقع أمريكا، وجدوى طرحه على الأمة، إذا لم يكن ذلك من أجل توجيه الجهود نحو الانعتاق من هيمنة هذه القوة واستعادة الأمة لقرارها السياسي والعسكري، وذلك من خلال العمل السياسي القائم على الوعي على الأحداث والنظر للعالم من زاوية الأمة الخاصة، وخصوصا في ظل تواتر التحليلات السياسية لمستقبل العالم، والتي تتوقع اقتعاد الأمة الإسلامية موقعا مميزا على خريطة العالم الجديدة.
22/3/2009