القانون الفلسطيني عندما يرعى الرذيلة ويمنع الفضيلة
 
الدكتور ماهر الجعبري/ عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
 
في الرابع من تموز من هذا العام تحولت رام الله إلى ما تشبه الثكنة العسكرية ردا على نشاط ثقافي، وفي السادس والعشرين من هذا الشهر تتحول رام الله إلى ما يشبه الكازينو الراقص في نشاط قد يسميّه البعض ثقافيا: حدثان جمعهما المكان الجغرافي، بينما يفرقهما الموقف القانوني ورد الفعل السلطوي، بعد أن تناقضا في المضمون الثقافي والوقْع الحضاري.
 
الحدث الأول تعلّق بفعاليات مؤتمر "الخلافة هي إقامة الدين وتوحيد المسلمين" الذي دعا له حزب التحرير، الذي ينشط في قارات الأرض كلها منذ عقود، ويرفض سياسة العار القاضية بالتعري والانبطاح أمام المشروع الأمريكي، ويعمل على كشف عورات الأنظمة أمام الأمة كي تثور على مستبدّيها.
بينما يتعلّق الحدث الثاني بفعاليات "مسابقة ملكة جمال فلسطين"، التي تدعو لها شركة فلسطينية، لعل القراء سمعوا باسمها أول مرة لدى الإعلان عن المسابقة، وهي فعاليات ستُكشف فيها عورات المحصنات من النساء، اللواتي سيُطلب منهن أن تتعرى أو ربما أن تنبطح لتتناولها الأيدي الفاسقة بالقياسات، بعد أن تحوّل المرأة إلى بضاعة ذات مواصفات معيارية، ومن ثم لتدجن الناس على استمراء المنكرات، ولتطبع وصمة عار في صورة فلسطين أرض الرباط، فتحولها من أرض ينتهك المحتل أعراضها، إلى صورة فتيات شبه عاريات، يرّخص قادة "المشروع الوطني" لامتهان كرامتهن وعفتهن على شاشات الفضائيات. ليكبر السؤال: ما هو ذلك المشروع الوطني الذي ترعاه تلك القيادة وإلى أين يسير ؟
 
قد يتعلق الموقف القانوني من ظاهرة التجمّع في النشاطين بقانونرقم 12 لسنة 1998 الخاص بالاجتماعات العامة، وقد يحاجج القانونيون أن القانون ينطبق على أحدهما ولا ينطبق على الآخر، قد يتفقون في تحقيق مناط القانون وقد يختلفون، ولكن الذي لا خلاف فيه أن الحدث الأول يدعو إلى فضيلة لا خلاف عليها مع أي مسلم صاحب لب سليم، بينما يروّج الحدث الثاني لرذيلة لا خلاف على حرمتها مع أي مسلم صاحب فطرة سليمة لم تشوّهها برامج التغريب الممولة من الجهات المانحة.
 
وعندما تتجه الأنظار لمن يطبق القانون، نجد أنه قد استنفر قواته وحوّل رام الله في الحدث الأول إلى ثكنة عسكرية لمنع عقد الفعاليات، بينما ينتدب في الحدث الثاني مسئوليه لإنجاح الفعاليات، ولعله ينتدب كتيبة من "المقاتلين القدامى" لحماية "ملكة جمال فلسطين"، وهي تتعرى على شاشات الفضائيات.
ومن هنا يبرز التناقض القانوني، لمن يطبّق ذلك "القانون"، ومن قبله يبرز التناقض الثقافي بين الفضيلة والرذيلة، حسب مقياس حضارة الأمة الإسلامية ووعيها. فليس ثمة شك أن صاحب القانون، وصاحب "السلاح" المرخّص الذي يحمي القانون، قد انحاز إلى نشاط الرذيلة الذي يكشف عورات المحصنات فحماه، بينما انحاز ضد نشاط الفضيلة الذي يكشف عورات الأنظمة فمنعه ! وهو تحد مقيت لمشاعر الأمة وأفكارها.
والحقيقة أن التناقض القانوني لا يقف عند هذا الحد: فقبل أيام نقلت وسائل الإعلام أن جلسة لإحدى المحاكم العسكرية في رام الله قد تمخضت عن حكم بالإعدام رميا بالرصاص والفصل من الخدمة العسكرية، لأحد منتسبي أجهزة الأمن الفلسطينية بعدما أدين بالتخابر مع العدو وفقا لمواد القانون الفلسطيني، بينما لا نجد أحدا يرفع دعوى قانونية ضد أمين عام الرئاسة الفلسطينية الذي لم يقتصر على التخابر مع ليفني، إحدى قادة الحرب اليهودية على غزة، بل صافحها بحرارة في المغرب قبل ثلاثة أسابيع أمام عدسات الإعلام، متحديا مشاعر المسلمين، فيضيف إلى جرم التخابر جرم الإصرار والمجاهرة.
.
وبالطبع لا يفكّر أحد برفع دعوى قضائية ضد أي من قادة المشروع الوطني وهم يتخابرون ويتحاورون مع قادة الاحتلال اليهودي، ولا ضد قادة الأجهزة الأمنية الذين أوكلت لهم مهام التنسيق الأمني مع الاحتلال من خلال التخابر مع العدو.
فهل هنالك تخابر يعاقب عليه القانون وآخر يسمح به القانون ؟ ولعمري لا أدري ماذا كانت فحوى مرافعة ذلك المتهم بالتخابر مع العدو، فلو أبدع محاميه لكان قال أمام القاضي أن موكله ينتمي إلى أجهزة لا تستلم قطعة سلاح واحدة إلا بعد التخابر مع العدو لإدخالها! ومن ثم لكان توجب على القاضي أن يستدعي القادة قبل الجنود الصغار.
ويستمر التناقض القانوني عندما يحمي صاحب السلاح "القانوني" كل مستوطن "مسلّح" يدخل مناطق القانون الفلسطيني، فيعيده ويسلمه إلى "العدو" سالما غانما، بينما يقتل أو يسجن ويجرّم كل "أخ" يحمل سلاحا يريد أن يصد به هجمات المستوطنين، وهم يستشرسون كل يوم، ويعتدون على سكان البلدات الفلسطينية، بل ويحرقون مساجد المسلمين كما حصل صباح الجمعة، في تناقض قانوني آخر.
بل ويحرس صاحب السلاح القانوني كل دورية احتلال تدخل أرض القانون الفلسطيني وهي تتبختر فوق تراب فلسطين، كما رصدت عدسات وكالة معا الإخبارية في بيت لحم يوم الأربعاء 23/9/2009، بينما يطلق الرصاص في الخليل على جنازة تحمل "شهيدا نحسبه كذلك"، سقط برصاص صاحب السلاح القانوني، وهو يقول "لا لمؤتمر التطبيع في أنابوليس"، في تناقض قانوني وحضاري صارخ.
وتطول قائمة تناقضات الممارسات باسم القانوني، ولائحة التعارضات مع وعي الأمة، وبالتالي فمن العبث أن تتم مناقشة القانون إذا كان تطبيقه مزدوجا، وإذا كان صاحبه مستعدا دائما لأن يطأه بقدمه كلما عارض هواه، أو تعارض مع "أجواء العلاقات الدولية"، ومع سياسة استجداء التمويل لهذا لمشروع الوطني، ومع "المناخ السياسي العالمي"، الذي يعتبر ما تقرره حضارة الإسلام والشرعية الإسلامية إرهابا، وما تفرزه ثقافة الغرب والشرعية الدولية انفتاحا وعصرنة.
ومن ثم، فإن الأولى من المراجعة القانونية لوزير العدل، الدكتور علي الخشّان، الذي قابلته كأستاذ جامعة قبل أن يصير وزيرا لعدل ضائع، هي المراجعة الأخلاقية والمهنية حول "قسمة ضيزى"، فهل يتحول الأكاديمي القانونيّ إلى شاهد زور على انتهاك القانون، وعلى امتهان ثقافة الأمة ؟ سؤال يبقى في ذمة الصحافة، إن لم يجرؤ صاحب القانون على فتح منبره الإعلامي للمحاسبة السياسية.