حرب الأعلام والرايات جولة في صدام الحضارات


الدكتور ماهر الجعبري


العَلم هو رمز ذو مضمون فكري وسياسي، وديني وتاريخي، ولذلك فهو تعبير عن موقف ثقافي-حضاري، وقد عرفت الأمم والشعوب الرايات والأعلام منذ القدم، وصحيح أن أصل غايتها كانت لاستخدامها في الحرب، ولكنها أصبحت اليوم ذات تعبير سياسي وعسكري عن كيان دولة ما أو فئة من الناس.
والرمزية نوع من أنواع التعبير العام عن مكنونات البشر، وهو أمر مشترك عند الناس ومباح في مختلف الثقافات، ولكن لا يمكن فصل الرمز عن مضمونه الحضاري ولا يمكن عزله عن سياقه التاريخي والديني، ولذلك فإن الموقف من الرمز هو موقف حضاري ذو أبعاد فكرية وسياسية، وكذلك الموقف من العلم، أي علم.
وقبل التعليق على الموقف من رمزية العلم، لا بد من إشارة عاجلة إلى رموز وأسماء مقبولة أصلا، ولكنها اكتسبت دلالات سياسية حوّلت واقعها الذهني من أمر مقبول إلى رمز أو اصطلاح مرفوض، مثل النجمة السداسية، فهي أصلا تعبير معماري إسلاميّ الطابع كما في قصر هشام في أريحا، ولكنها لما ترسّخت كرمز للصهيونية، وصارت جزءا من علم دولة الاحتلال اليهودي اكتسبت في الوعي الإسلامي دلالة رافضة لهذا الرمز وللعلم الذي يتخذه شعارا. وكذلك الموقف من بعض الكلمات والأسماء، مثل إسرائيل فإنه اسم نبي الله يعقوب عليه السلام، والإيمان به جزء من عقيدة المسلمين، ولكن ذلك الإيمان لم يبح إطلاق ذلك الاسم على فلسطين، لأنه تعبير عن كيان الاحتلال اليهودي المجرم. وقس عليها كثير من الرموز الدينية كالبوق والشمعدان، والصليب، وجرس الكنيسة، فإنها خاصة بأهلها، ولا يمكن لواع مدرك من غير ملة أصحابها أن يتخذها شعارات أو رموز مستندا إلى دلالات أشكالها الأصلية دون استحضار ما آلت إليه وما حملته من مضامين.

إذن، لا يمكن القفز من المضمون الفكري للرمز والعلم، ولا شك أن أغلب المثقفين يدرك أن "الأعلام الوطنية" للدول العربية وللثورات العربية، هي أشكال ورموز صاغها مارك سايكس بقلمه وألوانه، وتمخضت عن محاصصة فرنسا وبريطانيا لتركة الخلافة العثمانية، ولذلك فهي نتيجة غلبة الغرب للدولة الإسلامية في تلك الفترة الزمنية. وهذا ما لا ينكره باحث منصف. وقد بثت قناة الجزيرة قبل أشهر فلما وثائقيا (

، ج3، د 15) تضمن خلفية الأعلام الوطنية للدول العربية، وبيّنت بالوثائق كيف تم تصميمها من قبل ذلك الانجليزي بما يشمل علم منظمة التحرير الفلسطينية.
وهذه الخلفية الاستعمارية للأعلام الوطنية –ومنها علم فلسطين- أمر مقطوع به، ولكّن الحالة الشعورية لمن ارتبط عندهم حب فلسطين بذلك العلم، جعلهم يدفنون رؤوسهم بالرمال، هروبا من "خطر" ذلك المضمون السياسي-التاريخي، وطلبا للاطمئنان الشعوري (المكذوب)، ولكن دفن النعامة رأسها في الرمال لا ينجيها من خطر الهجوم.
وكذلك الحال بالنسبة لما يسمّى بعلم الثورة السورية، فمن المعلوم أنه تم تصميمه ضمن دستور "الاستقلال" الذي تم على عين وبصر فرنسا التي استعمرت الشام، فهو رمز ذو مضمون تاريخي استعماري، بل إن الدراما العربية قد أبرزت ذلك المضمون ضمن مسلسلاتها "التاريخية" عندما ربطت ذلك العلم بالضابط العربي الذي يتحرك تحت إمرة الفرنسيين، مثل ما فعل أبو جودت في باب الحارة وهو يتخذ "علم الثورة"! رغم انحطاط صفاته وانحيازه ضد أهل بلده في تلك المشاهد.
ومن المعلوم أن ثورة الشام ذات صبغة إسلامية: انطلقت من المساجد ورفعت شعارات إسلامية واضحة، ولم يبرز فيها ذلك البعد التغريبي كما في مصر وتونس، وتحرك فيها علمانيون، أحسوا بالتحدي في إسلامية الثورة، وعملوا على فرض علم "أبي جودت" -عبر الائتلاف الوطني- على الثورة، كتعبير علماني عن توجهاتهم، ثم سخّروا علماء وإعلاميين لشرعنة ذلك العلم.
ومن الغريب أن تجد من "العلماء" من يصر على تمرير ذلك العلم –وغيره من الأعلام الوطنية- رغم ما يحمل من مضمون تاريخي استعماري، ومن الأغرب أن تجد من "العلماء" من يحاول تسطيح واقع رفعه، على أنه استخدام لألوان وأشكال مباحة، ومن ثم قياسه على جواز استخدام ألوان متعددة للرايات كتعبير عن جهات مختلفة، متعاميا -أو متغابيا- عن عملية التحول لتلك الأشكال والألوان وما نتج عنها من مضمون سياسي-فكري، وهو بتلك الحال، كمن ينظر للخمرة على أنها عصير عنب!
صحيح أن ثمة أحاديث نبوية أباحت استخدام ألوان لرايات متعددة للتعبير عن جماعات عسكرية متعددة ضمن المسلمين، وهي أحاديث يمكن للبعض أن ينزلها على مسألة اتخاذ رايات خاصة لبعض المنظمات الجهادية كراية حماس الخضراء وراية الجهاد الإسلام (وحتى راية حزب الله، رغم تلطخها بعار موقفها من ثورة الشام)، ولكن تلك الرايات هي رايات خاصة لفئة وليست رايات أمة، وهي قامت على رموز لم تستند إلى مخلفات الاستعمار ونفاياته الفكرية كما في الأعلام الوطنية، فيمكن للبعض تناولها الفقهي من تلك الزاوية، وإن كان رفع رايات الأمة الجامعة أولى في هذه المرحلة الحاسمة من صراعها مع الغرب.
وفي مقابل ذلك "التساهل" بل التمييع الحضاري لرمزية ذلك العلم، تجد "تشددا" في إنكار مشروعية الراية الإسلامية واللواء، رغم أنها جزء من ثقافة وحضارة الأمة الإسلامية، ورغم أنها أحكام شرعية وردت بنصوص صريحة صحيحة، كما في حديث: كَانَتْ رَايَاتُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سَوْدَاءَ وَلِوَاؤُهُ أَبْيَضَ  (أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة والبيهقي وأبو يعلى وغيرهم).

إن الراية السوداء الممهورة بلا إله إلا الله، وكذلك اللواء الأبيض، هما رمزان حضريان للعسكرية الإسلامية، بجيشها وقائدها، وكذلك يدلّلان على مشروع سياسي عالمي يقف اليوم متحديا للمشروع الغربي-الديمقراطي، ولذلك من السذاجة بمكان أن يُظن أن أمريكا ومعها أوروبا وروسيا يمكن أن تتعايش مع ثورة ترفع تلك الرايات والألوية، ومن السذاجة أن يُظن أن ملوك الخليج وحكام تركيا يمكن أن يدعموا جهات "ثورية" ترفع تلك الرايات والألوية. ولذلك فإن رفع تلك الرايات السوداء والألوية البيضاء هي التعبير الصادق عن رفض الاستعمار وذيوله، بينما لا يمكن فصل رفع "الأعلام الوطنية" عن وضع الثورة في حضن الاستعمار الذي صمم تلك الأعلام.
إن الغرب –سيد أولئك الحكام والملوك- يتوجس من انبثاق ذلك المشروع العالمي الحضاري – الخلافة- في الشام أو في غيرها من بلاد المسلمين، ولذلك فهو ينظر لحرب الأعلام والرايات على أنها جولة في صدام الحضارات الذي لا فكاك منه، ومن السخف أن يحصر بعض "العلماء" تناول المسألة من زاوية فقهية ضيقة (وخاطئة) متناسين سياق ذلك التحدي المتصاعد بين دولة إسلامية تتعالى ودول رأسمالية تتهاوى.