بسم الله الرحمن الرحيم

 جواب سؤال

ترامب وقمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)

 

السؤال: عقدت في بروكسل عاصمة بلجيكا وعاصمة الاتحاد الأوروبي يومي 11 و12/7/2018 قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) حضرها الرئيس الأمريكي مع زعماء الدول الأعضاء في الحلف الـ29. واحتد النقاش بينهم وبين ترامب وكاد يحصر حول موضوع زيادة الإنفاق العسكري إلى 2% من إجمالي الدخل المحلي. فلماذا تفعل أمريكا ذلك؟ وما مصير هذا الحلف؟

 

الجواب: لكي يتضح الجواب نستعرض الأمور التالية:

 

1- إن الرئيس الأمريكي ترامب يسلك سلوكا آخر بعيدا عن الدبلوماسية واللف والدوران. فهو يصرح ويكشف علنا عن كل ما يريد، ويمارس الضغوطات علنا، فما يقوله ويطلبه وراء الكواليس وفي الاجتماعات الخاصة مع نظرائه في الدول الأخرى يقوله ويطلبه علنا وبغطرسة وعنجهية أكثر من مثيله جورج بوش الابن. وكذلك فهو على عكس سلفه أوباما، فقد كان أوباما يفعل ذلك وراء الكواليس ويمارس الضغوطات على نظرائه وعلى الدول ويقوم بالمداورات السياسية وباللف والدوران في الخفاء وكأنه سياسي إنجليزي! فالرئيس الأمريكي السابق أوباما هو الذي فرض زيادة نسبة 2% من إجمالي الناتج المحلي على دول الأعضاء عام 2014، وبدأ يمارس الضغوطات عليها بأساليب مختلفة حتى تلتزم بالاتفاق. وكان يرد في الأخبار عن اتصالاته مع الدول الأعضاء حول هذه الزيادة بدون إثارة ضجة وخناق علنا لتظهر كأن الحلف متماسك وأنه وحدة واحدة، وزعيمته أمريكا راضية عن سيره وسير أعضائه وهي في الواقع في خلاف شديد معهم. وقد تعهد أعضاء الحلف أمام أوباما في تلك السنة بإنفاق هذه النسبة من إجمالي الناتج المحلي لبلدانهم على شؤون الدفاع بحلول عام 2024، لكن نحو 15 دولة من الأعضاء من بينها ألمانيا وكندا وإيطاليا وبلجيكا وإسبانيا لا يزال إنفاقها تحت عتبة 1,4% وستكون غير قادرة على احترام وعدها مما يثير غضب ترامب. وفي إطار المبادرة الأمريكية حول هذا الموضوع فستتعهد دول حلف الأطلسي بأن تكون قادرة بحلول 2030 على أن تنشر خلال 30 يوما 30 كتيبة آلية و30 سرب طائرات و30 سفينة مقاتلة لتتمكن من مواجهة عملية عسكرية محتملة لروسيا حيث تجعل أمريكا من روسيا عدوا وهميا محتملا لفرض هيمنتها على أوروبا ومنعها من أن تستقل بقراراتها العسكرية والسياسية، وهكذا تجبرها على إبقائها تحت قيادتها ومظلتها العسكرية على الأقل.

 

2- إن ترامب يدرك صعوبة الأمر مع حلفائه وإقناعهم، ولهذا كتب على تويتر يوم 10/7/2018 وهو يتوجه نحو قمة الناتو في بروكسل "إن لقاءه (المنتظر يوم 16/7/2018) في هلسنكي مع الرئيس الروسي بوتين قد يكون أسهل من قمة الأطلسي"، إن كلامه هذا فيه نسبة كبيرة من الصحة، فروسيا تبدو كالخانع والمستعد لتقديم الخدمات لأمريكا في سبيل تحقيق بعض المصالح لها، ولتظهر كأنها دولة كبرى مؤثرة عالميا بجانب الدولة الأولى، وكذلك لكف شر أمريكا عنها وخاصة في منطقة نفوذها ومحيطها الذي تعمل أمريكا على الاشتغال به للسيطرة عليه. أما أوروبا فهي تظهر كالند والخصم والمنافس، فأوجدت اتحادها الأوروبي لتقف في وجه أمريكا وتنافسها، ولهذا تتخذ أمريكا من هذا الاتحاد موقفا معاديا، وتعمل على تفكيكه بصورة علنية، فأيدت خروج بريطانيا منه، وهاجم ترامب سياسة حكومة تيريزا ماي البريطانية التي تتوجه نحو إقامة سوق حرة مع الاتحاد الأوروبي بعد خروجها من الاتحاد قائلا "خطة ماي ستقضي على الأرجح على الاتفاقية مع أمريكا، لأنهم إذا أبرموا اتفاقا كهذا، فسنكون بذلك نتعامل مع الاتحاد الأوروبي بدلا من التعامل مع بريطانيا"، وقال: "لقد أخبرت تيريزا ماي أنني كنت سأتعامل مع البريكست بطريقة مختلفة، وأخبرتها كيفية فعل ذلك، لكنها لم توافق، لم تستمع إلي، وأرادت أن تسلك طريقا مختلفا"، وامتدح بوريس جونسون وزير خارجية بريطانيا الذي استقال بسبب معارضته لخطة ماي قائلا إنه "سيكون رئيس حكومة عظيما" (بي بي سي نقلا عن ذي صن 13/7/2018)، ودعا الدول الأخرى للخروج منه بصورة علنية. حتى إنه عرض على الرئيس الفرنسي الذي قام بزيارته في شهر نيسان/أبريل الماضي الخروج من الاتحاد الأوروبي. فقد أوردت صحيفة واشنطن بوست يوم 29/6/2018 أن "ترامب عرض على نظيره الفرنسي ماكرون الخروج من الاتحاد الأوروبي على أن يتم التوصل إلى اتفاق تبادل ثنائي مع أمريكا، وذلك خلال لقائهما في البيت الأبيض في نيسان الماضي". ونقلت عن اثنين من المسؤولين الأوروبيين أن "ترامب قال لماكرون: لماذا لا تخرج من الاتحاد الأوروبي؟".

 

3- ولهذا انتقد ترامب الاتحاد الأوروبي وبخاصة ألمانيا، فأزمتها مع أمريكا هي الأشد والأقسى! لقد ذكرنا في جواب سؤال بتاريخ 7/6/2017 أسباب تصاعد الأزمة مع ألمانيا خاصة فقلنا: "إن ألمانيا هي المركز المالي الأكبر في أوروبا، والاقتصاد الرابع عالمياً بعد أمريكا والصين واليابان، لذلك ظلت عيون ترامب متجهة صوبها في محاولة لجني أموال وفيرة منها لصالح الولايات المتحدة، خاصة وأن أمريكا تتذرع على الجانب الألماني بالمخاطر الروسية لدفع ألمانيا إلى المزيد من المساهمة والمشاركة والعطاء داخل الناتو، إذ تنفق برلين 1.2% من دخلها القومي على النواحي العسكرية 42 مليار دولار، وكذلك يميل الميزان التجاري بين أمريكا وألمانيا لجهة الأخيرة بشكل كبير، نحو ستين مليار يورو، فقد بلغ حجم التجارة الأمريكية الألمانية 165 مليار يورو خلال 2016، منها 107 مليارات يورو حجم الاستيراد الأمريكي من ألمانيا..." وذكرنا أن "... المشهد الأوروبي مقبل على مزيد من البروز للقيادة الألمانية على المستويين السياسي والاقتصادي، وما يشير إلى هذا ويؤكده هو تَصدُّر المسؤولين الألمان للرد على السياسات الأمريكية، وإعلان رغبة ألمانيا بنقل الخلاف مع الولايات المتحدة إلى العلن... وهذا إن توسع كثيراً فإنه سيخلخل أوروبا بشكل كبير، وقد يدفع في نهايته إلى تسلح سريع لألمانيا ومن العيار الثقيل".

 

4- لقد شاهد ترامب تحدي ألمانيا له وتماديها في عدم الاكتراث به كثيرا، خاصة بعد أن كشف عداوته للاتحاد الأوروبي الذي تعتبره ألمانيا سوقا اقتصادية قوية لها، وتعتبره بمثابة المركبة التي تصعد فيها ألمانيا إلى فضاء الساحة الدولية للتأثير في السياسة العالمية... وعليه فقد زاد ترامب من انتقاده لألمانيا بالذات وطالبها بدفع مئات المليارات على حماية أمريكا لها منذ الحرب العالمية الثانية، فقال قبل بدء القمة وهو يشن هجوما على ألمانيا خلال لقائه الأمين العام للناتو إن "ألمانيا تثري روسيا، إنها رهينة روسيا، إنها خاضعة بالكامل لسيطرة روسيا. إنها تدفع مليارات الدولارات لروسيا لتأمين إمداداتها بالطاقة وعلينا الدفاع عنهم في مواجهة روسيا. كيف يمكن تفسير هذا الأمر؟ هذا ليس عدلا"، وقال ترامب أثناء القمة: "ألمانيا خاضعة لسيطرة روسيا تماما لأنها ستحصل على 60% إلى 70% من طاقتها من روسيا بالإضافة إلى خط أنابيب جديد، وأعتقد أن هذا ليس مناسبا إنه أمر سيئ للغاية بالنسبة للحلف الأطلسي". (بي بي سي 12/7/2018)، وردت عليه المستشارة الألمانية ميركل قائلة: "إن لألمانيا سياساتها الخاصة إنها تتخذ قراراتها بشكل مستقل. لقد عشت شخصيا في الجزء من ألمانيا الذي كان يحتله الاتحاد السوفياتي. إني سعيدة جدا بأننا اليوم موحدون تحت راية الحرية، وبسبب ذلك يمكننا القول إننا نستطيع أن نضع سياساتنا المستقلة ونقوم باتخاذ قرارات مستقلة". وقال وزير خارجية ألمانيا هايكو ماس "إننا لسنا أسرى لروسيا أو لأمريكا" (بي بي سي 12/7/2018). وتجاهل ترامب وميركل كلٌّ منهما الآخر وهما يسيران في ممر المقر الجديد للحلف حتى المنصة لالتقاط الصورة التقليدية. وكان ترامب قد ندد مرات عدة بمشروع أنبوب الغاز نور ستريم الذي سيربط روسيا بألمانيا وطالبها بالتخلي عنه. وهذا المشروع يعارضه بعض الأوروبيين ليسبب انقساما في سياسة الاتحاد الأوروبي، إذ تعتبر بولندا أن أوروبا ليست بحاجة إليه. فقال وزير خارجية بولندا جاسيك شابوتوفيتش لدى وصوله إلى مقر الحلف: "إن نور ستريم هو نموذج الدول الأوروبية التي تقدم أموالا إلى روسيا وتعطيها وسائل يمكن استخدامها ضد أمن بولندا". (فرانس برس 11/7/2018) فهو يتكلم بلسان ترامب. وذلك لأن بولندا توالي أمريكا، فتعمل لحساب أمريكا داخل الاتحاد الأوروبي. وهكذا تعمل أمريكا من داخل الاتحاد الأوروبي لنخره من الداخل منذ زمن، ولكن الجديد على عهد ترامب أنه أضاف العمل المباشر والعلني لهدم الاتحاد جاعلاً من إرغام أوروبا لتطبيق النسبة 2% قضية مصيرية له لإظهار نجاحه فيما لم ينجح فيه سلفه أوباما من الضغط على الأوروبيين لزيادة نفقات الدفاع إلى 2%... ومن ثم تحسين وضعه في الداخل ما يحسن حظوظ الحزب الجمهوري في الانتخابات النصفية وكذلك حظوطه هو في دورة رئاسية ثانية...

 

5- ولكن فرنسا كانت أكثر تجاوبا فقال رئيسها ماكرون "إن فرنسا ستلبي الهدف المتفق عليه في الناتو بزيادة الإنفاق الدفاعي ليصبح 2% بحلول عام 2024، وإن التماسك في الحلف لن يكون ممكنا إلا إذا تم تقاسم العبء بشكل منصف". وقال: "إن ترامب جدد التزام أمريكا بالحلف رغم تعبيره عن شكوكه في وقت سابق وإنه لم يهدد بشكل مباشر بالانسحاب خلال القمة يوم الخميس (12/7/2018)". (رويترز 12/7/2018) علما أن فرنسا تنفق حاليا نحو 1,8% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع. ولكنها تعمل على ملاينة أمريكا حتى تمنحها دورا دوليا بجانبها لتدغدغ مشاعر حب العظمة التي تطغى على الفرنسيين، ولكن دون تخليها عن الاتحاد الأوروبي بجانب تخوفها من صعود ألمانيا. فمرة تشد فرنسا لصالح الاتحاد الأوروبي كما حصل في اجتماع قمة السبع في كندا مؤخرا والحرب التجارية التي أعلنها ترامب، وفي موضوع المحافظة على الاتفاق النووي مع إيران رغم خروج أمريكا منه، وأحيانا تلين تجاه أمريكا كما حصل في قمة بروكسل الأخيرة.

 

6- لقد أظهر ترامب أن أمريكا مستعدة للتخلي عن الناتو، وهو وإن لم يفعل ذلك الآن ولكن يبقى هذا التهديد قائما، وقد أعلن الحرب التجارية على حلفائه وعلى أعدائه، وهذا توجه جديد في سياسة أمريكا بقيادة رئيسها المتهور كما هو مستعد للتخلي عن التحالفات الأخرى. لقد قلنا في جواب سؤال بتاريخ 16/6/2018 "وكل هذا يدل على أن ملف الحرب التجارية مهم جدا بالنسبة لأمريكا، حيث ما زالت تعاني من تداعيات الأزمة المالية التي تفجرت عام 2008 وبلغت ديونها أكثر من 20 ترليون دولار، ويعمل الرئيس ترامب صاحب العقلية التجارية على إنقاذ اقتصاد أمريكا رافعا شعاره "أمريكا أولا" مما ينذر بتفكك مؤسسات عالمية طالما استخدمتها أمريكا لفرض نفوذها عالميا وبالتالي تفكك النظام العالمي وظهور موقف دولي جديد حيث لم تعد أمريكا تضحي من أجل أن تبقى سيدة العالم بمساعدة الدول الأخرى والتسامح بجعل ميزان التجارة يميل إليها، بل أصبحت تفكر فقط في السيادة مع الربح التجاري من دون مساعدة للحلفاء لتبقيهم تحت مظلتها وتسيّرهم خلفها".

 

7- وهكذا تستعر الحرب بين الحلفاء، وهذا يبشر بتفكك أحلافهم، ونشوب حروب اقتصادية وسياسية بينهم، ولولا خوفهم من استعمال الأسلحة النووية لاندلعت بينهم حرب عالمية ثالثة على غرار الحربين العالميتين السابقتين. إن أولئك الحلفاء هم مصدر الشر للعالم، لتبنيهم مبدأ الشر الرأسمالي الذي يجعل النفعية مقياس الأعمال والقيمة المادية هي القيمة الوحيدة التي تسود المجتمع. فأصبح العالم بأمس الحاجة إلى ظهور دولة الخير دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي ستنشر القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية ولا تقتصر على تحقيق القيمة المادية. وإن لله عباداً مخلصين لله صادقين مع رسول الله، ولا نزكي على الله أحدا، يصلون ليلهم بنهارهم لتحقيق هذا الخير العظيم، لسانهم رطب بذكر الله، وجوارحهم منشغلة بالدعوة إلى الله، وقلوبهم مطمئنة بنصر الله ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾.

 

الرابع من ذي القعدة 1439هـ

2018/7/17م

للمزيد من التفاصيل