بسم الله الرحمن الرحيم

جواب سؤال: إقدام الرئيس التونسي على تجميد البرلمان وإعفاء رئيس الحكومة!

========

السؤال: (أدى رضا غرسلاوي اليمين الدستورية أمام الرئيس قيس سعيد لتسيير وزارة الداخلية، بعدما كان يشغل منصب مستشار، كما نشرت ذلك الجزيرة ٣٠/٧/٢٠٢١)، وكان الرئيس التونسي قيس سعيّد قد أعلن في خطاب بثه التلفزيون الحكومي مساء يوم الأحد 25/7/2021 عقب اجتماع طارئ مع قيادات عسكرية وأمنية تجميد اختصاصات البرلمان وإعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي من مهامه مستنداً إلى المادة 80 من الدستور التونسي، ورفع الحصانة عن أعضاء البرلمان، وأعلن عن إقالته وزيري الدفاع والعدل، وعن توليه السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس حكومة يعيّنه بنفسه... فلماذا أقدم الرئيس التونسي على ذلك؟ وما هي ردود الفعل الدولية؟ وهل يعني ذلك أن الصراع الدولي قد اتجه بقوة نحو تونس؟

 

الجواب: لبيان الرأي الراجح في هذه المسائل نستعرض ما يلي:

 

1- بدأت الأزمة بين الرئيس التونسي قيس سعيّد وبين الحكومة والبرلمان في بداية العام الجاري، إذ أعلن رئيس الحكومة هشام المشيشي يوم 16/1/2021 عن إجراء تعديل وزاري شمل 11 حقيبة وزارية من أصل 25 حقيبة. فرفض الرئيس التونسي التعديلات الوزارية، ومنها إقالة بعض الوزراء المقربين منه، وقال سعيّد يوم 25/1/2021 "إن التعديل الوزاري الأخير الذي أجراه رئيس الوزراء هشام المشيشي على الحكومة لم يحترم الإجراءات التي نص عليها الدستور وتحديداً ما نص عليه الفصل 92، أي ضرورة التداول في مجلس الوزراء إذا تعلق الأمر بإدخال تعديل على هيكلة الحكومة، هذا إلى جانب إخلالات أخرى (لم يذكرها)" وقال "إن بعض المقترحين في التعديل الدستوري تتعلق بهم قضايا أو لهم ملفات تضارب مصالح.. وإن من تعلقت به قضية لا يمكن أن يؤدي اليمين، وإن أداء اليمين ليس إجراء شكليا، بل هو إجراء جوهري" وأعرب عن استيائه "من غياب المرأة عن قائمة الوزراء المقترحين..." أ ف ب، 25/1/2021). وقد جاءت قرارات الرئيس وتونس تعاني أزمة اقتصادية خانقة زادتها سوءا تداعيات جائحة كورونا التي تضرب البلاد بشدة مع تحذيرات من انهيار وشيك للمنظومة الصحية ما استدعى استقبال مساعدات طبية عاجلة من دول خلال الأيام الماضية. وقد نشر المعهد التونسي للإحصاء أن الاقتصاد التونسي ينكمش 8.8 بالمئة في 2020 (أظهرت بيانات للمعهد التونسي للإحصاء "حكومي"، الإثنين، تسجيل اقتصاد البلاد تراجعا قياسيا بنسبة 8.8 بالمئة في 2020. وتضرر بشدة الاقتصاد التونسي، الذي يعتمد إلى حد كبير على السياحة، جراء تداعيات جائحة كورونا... وقال معهد الإحصاء أن نسبة البطالة ارتفعت إلى 17.4 بالمئة في الربع الرابع من العام 2020، مقابل 16.2 بالمئة مسجلة في الربع الثالث من نفس العام... وكالة الأناضول 15/2/2021).

 

2- وفي 25/7/2021 نشرت الرئاسة التونسية بياناً على صفحتها الرسمية بفيسبوك، قالت فيه: ("بعد استشارة كلّ من رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب، وعملا بالفصل 80 من الدستور، اتخذ رئيس الجمهورية قيس سعيّد، اليوم 25 جويلية 2021، القرارات التالية حفظا لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها وضمان السير العادي لدواليب الدولة: * اعفاء رئيس الحكومة السيد هشام المشيشي. * تجميد عمل واختصاصات المجلس النيابي لمدّة 30 يوما. * رفع الحصانة البرلمانية عن كلّ أعضاء مجلس نواب الشعب. * تولي رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية بمساعدة حكومة يرأسها رئيس حكومة ويعيّنه رئيس الجمهورية". وأضافت: "وسيصدر في الساعات القادمة أمر يُنظّم هذه التدابير الاستثنائية التي حتّمتها الظروف والتي ستُرفع بزوال أسبابها.. وتدعو الرئاسة الشعب التونسي إلى عدم الانزلاق وراء دعاة الفوضى". دبي CNN،26/7/2021). وكان سعيد شدد على أن قراراته ("ليست تعليقا للدستور، وليست خروجا عن الشرعية الدستورية"... الجزيرة نت، 26/7/2021)، وقد أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد الجمعة أنه لن يتحول إلى ديكتاتور، معتبرا أنه ("يعلم جيدا النصوص الدستورية ويحترمها ودرسها". وفي وقت سابق، أشارت وكالة الأنباء الرسمية إلى أن القضاء فتح تحقيقا مع أربعة من أعضاء حزب النهضة بينهم حارس شخصي للغنوشي بتهمة محاولة القيام بأعمال عنف أمام البرلمان. والنائب في البرلمان التونسي ياسين العياري... فرانس24 - أ ف ب - رويترز، ٣٠/٧/٢٠٢١).

 

3- ولقد نفى رئيس البرلمان التونسي راشد الغنوشي على صفحته الرسمية على الفيسبوك يوم 26/7/2021 استشارة رئيس الجمهورية له، فكتب قائلا: "رئيس مجلس نواب الشعب ينفي استشارته لتفعيل الفصل 80 من الدستور.. إنه لم تقع استشارته البتة من قبل قيس سعيد رئيس الجمهورية حول تفعيل الفصل 80 من الدستور. وإن غير ذلك فهو ادعاء كاذب"، وفي صباح يوم الاثنين منع العساكر رئيس وأعضاء مجلس النواب من دخول مقر المجلس وأخطروهم بأن لديهم تعليمات تقضي بإغلاق البرلمان. وقال الغنوشي ("أنا رئيس المجلس أقف أمام المؤسسة التي أرأسها ويمنعني الجيش من دخولها" واتهم قيس سعيد "بالانقلاب على الثورة والدستور"... الجزيرة، 27/7/2021)، ولكن سعيد قال: (إن قراراته الأخيرة ليست محاولة للانقلاب على الدستور وإنه لا ينوي الانقلاب على الدستور والشرعية في البلاد وإن القرارات الأخيرة هي قانونية تماما وسينتهي العمل بها فور أن يزول الخطر الداهم من البلاد" صفحة الرئاسة التونسية على فيسبوك، 27/7/2021). ثم في 30/7/2021 أدى رضا غرسلاوي اليمين الدستورية أمام الرئيس قيس سعيد لتسيير وزارة الداخلية، بعدما كان يشغل منصب مستشار، كما نشرت ذلك الجزيرة في ٣٠/٧/٢٠٢١.

 

4- أما ردود الفعل للدول الكبرى الفاعلة في تونس فكانت على الشكل التالي:

 

أ- أمريكا: ليس لأمريكا نفوذ سياسي فعال في تونس، فإن الطبقة السياسية الموجودة هي في الأصل تابعة لبريطانيا، ثم استطاعت فرنسا أن تدخل بنفوذها أيضاً، وهكذا فإن السياسيين هم ضمن النفوذ الأوروبي؛ أي بريطانيا وفرنسا. وقد حاولت أمريكا أن تدخل إلى حد ما عن طريق المساعدات العسكرية ومساعدات المجتمع المدني. أما المساعدات العسكرية فقد حاولت الولايات المتحدة هذا الأسلوب لكسب النفوذ في تونس. لعقود من الزمان، وتحت ذريعة الإرهاب كانت الولايات المتحدة تسلح وتدرب وتعمل مع الجيش التونسي. فمولت الولايات المتحدة الجيش التونسي في إطار التعليم والتدريب العسكري الدولي (IMET) ومن خلال برنامج زمالة مكافحة الإرهاب، بلغت المساعدة الأمريكية حوالي 2.7 مليار دولار بين عامي 2012 و2016. ثم تم تصنيف تونس كحليف من خارج الناتو في عام 2015. وفي 1 تشرين الأول/أكتوبر 2020، وقع وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر اتفاق تعاون عسكري لمدة 10 سنوات مع تونس. وأوضح إسبر في كلمة عقب لقائه الرئيس قيس سعيد ("نتطلع إلى توسيع هذه العلاقة لمساعدة تونس في حماية موانئها البحرية وحدودها البرية وردع الإرهاب وإبقاء الجهود المدمرة للأنظمة الاستبدادية بعيداً عن بلدك"... أفريكا نيوز 1 تشرين الأول/أكتوبر 2020).

 

وأما أسلوب مساعدة المجتمع المدني فتتولاه السفارة الأمريكية في تونس في إطار برنامج دعم الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد في تونس الممول من قبل السفارة الأمريكية بقيمة 5.6 مليون دولار، وقد (وقع المركز الوطني لمحاكم الولايات NCSC مذكرة تفاهم مع وزارة العلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني لتطوير منصة رقمية تخص منظمات المجتمع المدني. ستساهم هذه المنصة في تمكين منظمات المجتمع المدني من التسجيل عن بعد، إضافة إلى إعداد التقارير المالية والأدبية الخاصة بالجمعية من أجل تعزيز آليات الكفاءة والمساءلة... السفارة الأمريكية في تونس U.S. Embassy Tunis،20 كانون الأول/ديسمبر 2020)...

 

ولكن هذه الأساليب قد تنفع كمدخل للنفوذ في بلد ما إذا كان هناك فراغ سياسي وليس أن يكون فيه نفوذ دولة مخضرمة كبريطانيا بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي وخاصة فرنسا وألمانيا الصاعدتين للحاق ببريطانيا... وعليه فهذه الأعمال الأمريكية لا تشكل خرقاً للنفوذ البريطاني أو الأوروبي في تونس حالياً، فالجيش صغير جداً ويلعب دوراً ثانوياً في سياسة البلاد. لذا فهي لا تزال بحاجة إلى مزيد من الوقت للعثور على عملاء مخلصين لها وبناء قدرة الجيش للعب دور مؤثر في تونس، وهذا قد يأخذ وقتاً... أي أن الدور الأمريكي ليس فاعلاً في تونس حتى الآن، بل هو دور عام بحجة الدعوة للديمقراطية و حقوق الإنسان! ومع ذلك فلن تترك أمريكا محاولاتها للنفاذ إلى تونس...

 

ب- بريطانيا: لقد كانت تمسك بزمام الأمور بشكل تام قبل الثورة، فكانت تدير البلاد من وراء ستار عن طريق عميلها زين العابدين ومن قبله بورقيبة بشكل كامل، ولم يكن لها منافس دولي بالمعنى الحقيقي على الساحة التونسية، بل كانت ترعى أحزاباً معارضة علناً مثل استضافتها لراشد الغنوشي زعيم حركة النهضة لتمتص بذلك المعارضة "الإسلامية" وتستخدم هذه الورقة المهمة عند الحاجة... وكانت بريطانيا تصول وتجول في تونس فقد دعت السفارة البريطانية في تونس في عام 2015 شركة آدم سميث الدولية الاستشارية لتقديم الاستشارات للحكومة في تونس وتدريب كبار الضباط وصياغة السياسات وإدخال قوانين جديدة. وبالمثل تم إحضار Aktis Strategy Ltd إلى تونس، وهو مقاول تطوير يدير عقوداً بملايين الجنيهات لصالح وزارة الخارجية والكومنولث البريطانية. ثم إن بريطانيا كانت تتحكم في الطبقة السياسية من الحبيب بورقيبة إلى بن علي إلى الباجي السبسي الذي أسس حزب نداء تونس عام 2012، وكان أحد رفاق الحبيب بورقيبة وحليفاً لبن علي، فقام بجمع كل القوى العلمانية القديمة التي استخدمها البريطانيون للعمل معها، وهكذا حافظت بريطانيا على نفوذها في البلاد من خلال السيطرة على الطبقة السياسية. غير أنها برحيل زين العابدين عن الرئاسة في تونس قد خسرت عميلها القوي دون أن تخسر النظام لأن لها الكثير من العملاء في الدولة في تونس وكذلك خارج الدولة، ولكن نفوذها السياسي أصبح أضعف من ذي قبل، ولم يرفع من هذا الضعف رجوع الغنوشي من بريطانيا موالياً لها وذلك لأن أعضاء وقيادات حزب النهضة ليسوا موحدين على قيادة الغنوشي خاصة وأنه أصبح علمانياً ففي النهضة مخلصون وفيهم من يثقون بتركيا وبرئيسها أردوغان، فشكل كل هذا عائقاً أمام بريطانيا لرص صفوف أتباعها، بل وفتح طريقاً لتركيا التابعة لأمريكا للتأثير داخل حزب النهضة وتهديد قيادة الغنوشي للحركة من الداخل. ولتسوية هذا الأمر أخذت حركة النهضة تخفض من "إسلاميتها" لتعزيز قبول العلمانيين بها، ففصلت "الدعوي" عن "السياسي" وتحالفت مع "نداء تونس" سنة 2014 لتشكيل جبهة برلمانية واسعة لدعم عميل بريطانيا الباجي السبسي، لكن حزبه لم يستمر بقوته بل تشقق... وبالتدقيق في موقف بريطانيا يتبين أن الأحداث في تونس قد أصابتها بصدمة، فقد نشرت صحيفة الغارديان البريطانية حسب موقع الجزيرة نت في 27/07/2021م، مقالاً بعنوان "وجهة نظر الغارديان حول الانقلاب في تونس: ربيع يتحول إلى شتاء" وذكرت أن تونس تشهد ثورة مضادة معتبرة أن ("اقتحام الأمن لمحطات التلفزيون ليس بعلامة جيدة على الإطلاق" وذكرت "أن المواطنين يتصرفون بلا مبالاة وتقبل مفاهيم غير ليبرالية بسبب أن الحرية والديمقراطية لم تحققا الاستقرار السياسي والاقتصاد المزدهر. فبدلا من ذلك استمر الفساد والتضخم والبطالة وأن ثلث الأسر في تونس كانت تخشى نفاد الطعام العام الماضي بعد تفشي وباء كورونا، وأن الحكومة وفقا لوثائق مسربة كانت مستعدة لإلغاء دعم الخبز في المفاوضات للحصول على قرض بقيمة 4 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي وهو الرابع في 10 سنوات، ولم يتفاقم الغضب من تعامل الحكومة مع الوباء إلا بسبب مستوى الدين الوطني فقد أصبحت مدفوعات القروض الآن ستة أضعاف حجم ميزانية الصحة في البلاد". أي أن النظام كان يرزح تحت الضغوطات الأمريكية عن طريق صندوق النقد الدولي وتعمل أمريكا على تعزيز وجودها في تونس من خلال هذه الضغوطات.").

 

وبكل هذا يتضح بأن نفوذ بريطانيا في تونس قد ضعف فعلاً، ومع الظروف المستمرة التي تضعفه فإن فرنسا قد وجدت لها باباً للولوج بقوة إلى داخل تونس، وقد ظنت بريطانيا أن النفوذ الفرنسي غير خطير لأنها درجت دائماً على التنسيق مع فرنسا خاصةً ضد النفوذ الأمريكي، وكانت الدولتان متفقتين على ذلك، لكن "بريكست" بريطانيا قد أحدث صدعاً كبيراً بينهما ولم يقم أي منهما بأي جهد لردمه، بل إن عدداً من دول الاتحاد الاوروبي وخاصة ألمانيا قد كان موقفها قريباً من موقف فرنسا، فهي لم تصف ما حدث في تونس انقلاباً كما دأبت على ذلك وسائل إعلام بريطانية (قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الألمانية ماريا أديبهر، اليوم الاثنين، إن برلين قلقة من الاضطرابات السياسية المتصاعدة في تونس وتدعو إلى إعادة البلاد إلى حالة النظام القانوني الدستوري، ومع ذلك ترى أن ما حدث ليس "انقلابا"...سبوتنيك، 26/7/2021).

 

ج- فرنسا: أما الموقف الفرنسي فهو أكثر ما يلفت النظر:

 

- كان الرئيس الجديد قيس سعيد مناهضاً كبيراً للاستعمار، وكانت طروحاته الثورية مقبولة للتونسيين الذين انتخبوه أملاً منهم في القضاء على "الحرس القديم" الذي ظل يقود الدولة في فترة ما بعد "الثورة" بطريقة أو بأخرى، ولما أصبح الرئيس سعيد رئيساً في تشرين الثاني 2019 فقد أصبح رئيس تونس مستقلاً بادئ الأمر، لكن ولما كانت تعشعش في عقليته وأمثاله كثير أنه يجب أن يستند إلى قوة دولية فقد وجد ذراعي فرنسا مفتوحتين له وصارت فرنسا تحلم بإعادة تونس عضواً فاعلاً في منظومتها الفرانكفونية، ومن الأدلة التي تشير إلى أن فرنسا قد نجحت فعلاً في جعل قيس سعيد عميلاً لها ما يلي:

 

- مع انقسام البرلمان التونسي إلى شقين؛ شق مناصر للرئيس قيس سعيد، وشق مناهض له وهو الشق الأكبر، فإن "ائتلاف الكرامة" المتحالف مع حركة النهضة ضمن الشق البرلماني المناهض للرئيس قيس سعيد والأشد عداءً لفرنسا داخل البرلمان التونسي قد أخذ يعمل على تشويش العلاقات الفرنسية بتونس فطرح فكرة "اعتذار فرنسا" عن استعمارها لتونس للتصويت البرلماني، ولم يطرح ذلك إبان رئاسة السبسي أو المرزوقي ما يدل على أن المناهضين للرئيس سعيد يريدون إحراج الرئيس وإحراج فرنسا في علاقاتها مع تونس والتذكير بعداوتها الاستعمارية، ولكن الرئيس التونسي قد وقف موقفاً يكاد يكون مدافعاً فيه عن فرنسا، على عكس مواقفه أثناء الحملات الانتخابية فقد قال سعيد: (إن "من يعتذر يدين نفسه"، مضيفاً "فلننظر نحو المستقبل"... إن فرنسا ارتكبت جرائم في تونس ولكن في ظل نظام الحماية لا الاستعمار المباشر كما هو الحال بالنسبة للجزائر، مستدركاً بالقول إن التونسيين دفعوا باهظاً ثمن استقلالهم ويستحقون الاعتذار، ولكن إعلان الاعتذار ليس كافياً. وتابع "ربما اعتذار مع مشاريع وربما تعاون جديد"، معتبراً أن لائحة الاعتذار لم تكن بريئة ومتسائلاً "لماذا بعد 60 عاماً نطلب اعتذارات؟" موقع أولتراتونس، 23/6/2020).

 

- (وفي حزيران/يونيو 2020، اختار سعيد فرنسا لتكون وجهته الأوروبية الأولى عقب توليه مهام منصبه، ليرسخ بذلك استقرار العلاقات مع باريس. الأناضول، 4/6/2021)، وقبل زيارة الرئيس التونسي لباريس وعلى عتبتها فقد توافد مسؤولون فرنسيون كبار إلى تونس ما يشير إلى خصوصية العلاقة بعد تولي قيس سعيد للسلطة (من هذه الزاوية قد تكون دعوة الرئيس إلى فرنسا تمهيدا لمشاريع تعاون عسكري بين البلدين، خاصة وقد سبقت هذه الزيارة زيارة وزير الدفاع الفرنسي لتونس في مايو 2020 وقبلها زيارة رئيس أركان جيش البر الفرنسي، ولم يتسرب أي خبر عن فحوى الزيارتين غير الجمل المعتادة من الحديث عن القضايا ذات الاهتمام المشترك. الجزيرة، 18/6/2020)

 

- استمرت فرنسا توفد مسؤوليها الكبار إلى تونس كلما اشتدت الأزمات في تونس واشتدت معها الحاجة لدعم فرنسا (وصل رئيس الوزراء الفرنسي جان كاستكس إلى تونس مساء الأربعاء في زيارة يرافقه فيها ستة وزراء وتستمر حتى الخميس، بهدف تعزيز العلاقات مع البلد الأفريقي الذي يشهد أزمات عدة ويرزح تحت وطأة جائحة فيروس كورونا. وستتناول المحادثات ملفات "الشراكة الاقتصادية" و"الدعم" و"الأزمة الصحية"، كما سيتخلل الزيارة توقيع اتفاقات، وجولة في ورشة بناء شبكة للقطارات السريعة في تونس، ولقاء حول المجال الرقمي ينظمه رجال أعمال تونسيون وفرنسيون. فرانس 24، 2/6/2021).

 

- وشارك رئيس تونس في القمة الاقتصادية الأفريقية التي نظمتها فرنسا في باريس (سبوتنيك الروسية، 22/5/2021) ولم يعلن عن أي نتيجة خارجية لتونس اللهم باستثناء الوعد ببعض لقاحات كورونا، وهذا يدل على أن الزيارة كانت تهدف لبحث الوضع الداخلي التونسي مع الرئيس ماكرون حيث أكثر سعيد من ذلك الحديث عن الأوضاع الداخلية في تونس على وسائل الإعلام الفرنسية. وربما كانت الزيارة رداً على زيارات الغنوشي لقطر والتي أطلق عليها اسم "الدبلوماسية البرلمانية"، بمعنى أن كلا منهما يتقوى بأسياده وأقرانه من العملاء.

 

- تعهد فرنسا بتقديم مبلغ 1.7 مليار يورو لدعم تونس على شكل مساعدات وقروض حتى 2022 لتمويل مشاريع في قطاع الصحة وتوفير فرص عمل، وإعلان الرئيس الفرنسي ماكرون تقديم قرض بقيمة 350 مليون يورو أثناء زيارة الرئيس التونسي قيس سعيد لباريس منتصف 2020... العربي الجديد، 2/11/2020).

 

- نقلت قناة الجزيرة 28/7/2021 في أوضح تصريح رسمي صادر عن فرنسا ما قاله وزير الخارجية الفرنسي لودريان بأن (فرنسا تتابع التطورات في تونس على أكبر قدر من الاهتمام). ونقلت آر تي عنه في 28/7/2021 (وأفادت وزارة الخارجية الفرنسية، في بيان أصدرته الأربعاء، بأن لودريان تحدث اليوم هاتفيا مع نظيره التونسي، عثمان الجرندي، وشدد لودريان، حسب البيان، على "أهمية أن يتم في أسرع وقت ممكن تعيين رئيس وزراء وتشكيل حكومة يستطيعان تلبية تطلعات الشعب التونسي في ظل الأزمة التي تمر بها البلاد").

 

والخلاصة: إن كل مؤشرات الصراع الدولي المحتدم في تونس تدل على أنه صراع بين بريطانيا صاحبة النفوذ السابق والكبير في تونس وبين فرنسا صاحبة النفوذ الجديد وغير المستقر فيها، وأن أمريكا لا تزال بعيدة عن مركز الثقل في هذا الصراع وإن كانت فرنسا وعملاؤها تريد التقوي بأمريكا وعملائها في المنطقة ضد عملاء بريطانيا في تونس، فتراها تدفع بعملائها في تونس إلى عميل أمريكا في مصر، لكن تأثير مصر في تونس أقل بكثير من تأثير عملاء الإنجليز في الجزائر، التي تجاور تونس مباشرة، فقد لمح الرئيس الجزائري إلى تونس وعلاقتها بفرنسا عندما قال: (قال تبون إن فرنسا تقرأ ألف حساب للجزائر متوجها بكلامه للصحفي الذي سأله ما إذا كانت فرنسا لا تزال تنظر إلى الجزائر على أنها مقاطعة فرنسية مصححا ذلك بقوله "لا لا". وتابع: "انت تقصد دولة أخرى يعطونها أوامر وتسكت وتطبق". واعتبر البعض أن كلام الرئيس الجزائري فيه إشارة إلى تونس خصوصا بعد تصريحات رئيس الجمهورية قيس سعيد إبان زيارته لفرنسا والتي قال فيها تونس لم تكن تحت الاستعمار بل كانت تحت الحماية... موقع الحصري، 8/7/2021).

 

ومن كل هذه المواقف الدولية يتضح بأن فرنسا تنازع بريطانيا السلطة في تونس، ولكن المنازعة هي داخل أوروبا، وأمريكا ليست في النزاع، لذلك لا نقول عما يحدث إنه صراع دولي بالمعنى الاصطلاحي لعدم وجود أمريكا خلاله بشكل فاعل، بل هو كما قلنا آنفاً صراع داخل أوروبا وخاصة فرنسا وألمانيا من جانب، وبريطانيا من جانب آخر... ولهذا فلن يأخذ صفة الصراع الطويل، بل ستعود الصيغة التوافقية ويرجح أن نفوذ بريطانيا لن يغادر تونس، فبريطانيا تتقن الدهاء السياسي الذي تفتقر إليه فرنسا...

 

ومع ذلك فإننا ندعو الله القوي العزيز أن يجعل بأسهم بينهم شديداً وأن يكرمنا الله بإقامة الخلافة على أيدينا، فيعز الإسلام والمسلمون، ويذل الكفر والكافرون:

﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.

 

في الثاني والعشرين من ذي الحجة 1442هـ

2021/8/01 م

أمير حزب التحرير