بسم الله الرحمن الرحيم

جواب سؤال

السؤال: أثار انتباهَ المراقبين في الآونة الأخيرة بعضُ الأوضاع والأحداث والظروف والصراعات في نيجيريا وكينيا... فهل يعني هذا أنّ الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة أو قوى أخرى قد اعتمدت سياسة جديدة لتشجيع الحروب الأهلية الجارية في جميع أنحاء أفريقيا، في نيجيريا حاليا، وفي كينيا بعد الانتخابات العامة عام 2007 أم أنّ هذه الأحداث داخلية؟

الجواب:

أولاً: الصراع الجاري في كينيا والتوترات المستمرة بين القبائل المختلفة هو نتيجة للتنافس بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على الانتخابات الرئاسية المقبلة، والمقرر عقدها في آذار/مارس 2013، ويتركز الصراع الأنجلو أمريكي بين الرئيس الحالي كيباكي، وصاحبه المرشح لرئاسة الجمهورية أوهورو كينياتا، وهما مواليان للإنجليز، هذا من جانب، وعلى الجانب الآخر، رئيس الوزراء رايلا أودينغا، المرشح لرئاسة الجمهورية والموالي لأمريكا، وهذا الصراع هو بسبب نتائج الانتخابات الرئاسية في عام 2007، والتي كان متنازعا عليها على نطاق واسع بين أودينغا ومؤيديه الأمريكيين، وبين كيباكي ومؤيديه الإنجليز.

إن كيباكي وكينياتا ينحدران من المجموعة العرقية ذاتها وهي كيكويو، والتي تعد أكبر مجموعة عرقية في كينيا. بينما رايلا أودينغا من مجموعة "لوه"، وهي ثالث أكبر مجموعة عرقية في كينيا، وكان يُترجم الصراع على السلطة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في كثير من الأحيان إلى صراع بين كيباكي، وبين أودينغا، وكذلك بين قبائل وعشائر كل منهما وتلك المتحالفة معهما.

وباقتراب الانتخابات الرئاسية، تتزايد التوترات بين الفصائل المختلفة لتعزيز مكاسبها قبل الانتخابات، ولا يوجد تعمد من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لإيجاد حرب أهلية من أجل إنتاج صراعات، وإبقاء الوضع متوترا وغير مستقر، بل إنّ التوجه المتوقع هو نحو كسب مزايا سياسية قبل الانتخابات الرئاسية، أو الميل إلى إمكانية تأجيل الانتخابات الرئاسية في حال رأى أي من المتصارعين "أمريكا وبريطانيا"، أن ظروف الصراع لا تحقق نجاح مرشحه... ولهذا السبب فإنّ أمريكا تشدد على ضرورة عقد كيباكي انتخابات شفافة وحرة ونزيهة، وذلك لإعطاء فرصة أكبر لأودينغا للنجاح على كينياتا، ووصل تدخل الولايات المتحدة إلى حد التدخل المباشر، حيث قالت وزيرة الخارجية الأمريكية كلينتون أثناء زيارتها لكينيا في وقت سابق هذا الشهر "إنّ الولايات المتحدة قد تعهدت بتقديم مساعدة للحكومة في كينيا لضمان أن تكون الانتخابات القادمة حرة ونزيهة وشفافة، ونحث على الاستعداد للانتخابات التي ستكون نموذجا حقيقيا للعالم بأسره"، لكنها اعترفت أيضا بأنّ ذلك لن يكون مهمة سهلة لأنّ هناك حاجة إلى القيام بالكثير من الأعمال التحضيرية، حيث قالت "ولكننا ندرك جيدا أنّ هناك الكثير من الأمور التي ينبغي اتخاذ قرارات بشأنها وتمرير العديد من القوانين" ( كلينتون تتعهد بدعم الولايات المتحدة لتجنب إراقة الدماء في الانتخابات الكينية - الجارديان أون لاين، 4 آب/أغسطس 2012).

ومن الواضح أنّ أمريكا لا تزال تشعر بالقلق إزاء احتمال فوز أودينغا في الانتخابات، وتريد أن تتدخل في العملية الانتخابية، وهذا ما يزيد من التوتر البريطاني من خلال كيباكي وكينياتا والنخبة من أتباعهما والمجموعة القبلية كيكويو في محاولة عرقلة أي تدخل أمريكي.

ومع ذلك، فإّن هناك مسألة أضافت بعض "التوابل" إلى التوترات القائمة وهي إعلان كيباكي في آذار/مارس 2012 عن اكتشاف النفط في كينيا (كينيا تنضم إلى الطفرة النفطية الأفريقية مع أحدث الاكتشافات/ كريستيان ساينس مونيتور على الإنترنت 9 أيار/مايو 2012). وبطبيعة الحال، فقد زاد هذا من التوتر بين بريطانيا والولايات المتحدة لأنّهما تتنافسان لتأمين النفط الكيني لشركاتهما متعددة الجنسيات، كما يأتي هذا الاكتشاف في وقت يشهد فيه كلا البلدين أزمة اقتصادية حادة.

ثانياً: أما بالنسبة إلى نيجيريا، فإنه عقب المرض الذي أدى إلى وفاة الرئيس النيجيري عمر موسى يارادوا تم تنصيب الرئيس جودلاك جوناثان في منصب رئيس نيجيريا يوم الخامس من شباط/فبراير 2010، وقد كان جودلاك جوناثان قبل تعيينه رئيسا للجمهورية في منصب نائب الرئيس عمر وكان كلا الرجلين من حزب الشعب الديمقراطي(PDP) ، ويمكن القول أنّ كلا من عمر وجوناثان مدينان في صعودهما السياسي إلى أوباسانجو الزعيم القوي لحزب الشعب الديمقراطيPDP.

إن أوباسانجو هو عميل أميركا الرئيس في البلاد، ومكلف بمسؤولية ضمان استمرار الهيمنة الأمريكية في نيجيريا وتهميش النفوذ البريطاني، كان أوباسانجو هو من اختار جوناثان لشغل منصب نائب الرئيس لعمر في انتخابات عام 2007 الرئاسية، وقد ورد في الملف الشخصي لجودلاك جوناثان وفق ما ذكرته هيئة الإذاعة البريطانية: "السيد جوناثان تولى منصب المحافظ وبعد ذلك بعامين تم اختياره من قبل أولوسيجون أوباسانجو ليكون نائبا للرئيس النيجيري في الانتخابات الرئاسية لعام 2007)" (الملف الشخصي لجودلاك جوناثان: نيجيريا ، بي بي سي نيوز أون لاين، 18 نيسان/أبريل 2011). وفي وقت لاحق، نظم أوباسانجو وصول جوناثان إلى الرئاسة، ووفقا لصحيفة الطليعة فإنّ فانجارد أوباسانجو كان له دور أساسي في وصول جوناثان للرئاسة، وذكرت الصحيفة: "عندما مرض يارادوا وكان ميئوسا من شفائه بعد نحو عامين من فترة ولايته الأربع سنوات، زار أوباسانجو لأول مرة الرئيس المريض في المستشفى السعودي وعاد ليقود حملة تنصيب جودلاك جوناثان نائب الرئيس لأداء اليمين الدستوري كقائم بأعمال الرئيس يارادوا لأنه لم يتم تسليمه المنصب قبل سفر الرئيس للخارج (كليفور: استقالة أوباسانجو: وماذا بعد حزب الشعب الديمقراطي، جوناثان؟" صحيفة الطليعة على الانترنت ، 4 نيسان/أبريل 2012).

وهكذا نجحت أمريكا في الحصول على ولاية واسعة لجوناثان في إعادة انتخابه للرئاسة في عام 2011، حيث استخدم جوناثان أدوات الإعلام الاجتماعي للوصول إلى الجماهير النيجيرية وقام بتأمين 77.7٪ من الأصوات، وقد كانت هذه النتائج متقدمة بالمقارنة مع الأصوات عند ولاية عمر يارادوا.

ومع ذلك فقد ظهر بعد تعيين جوناثان رئيساً ضعفٌ سياسي أكثر مما كان في فترة عمر يارادوا، هذا على الرغم من أنّ أوباسانجو كان المستشار لجوناثان عندما كان رئيسا لأمناء مجلس حزب الشعب الديمقراطي. وقد عانت فترة حكم جوناثان من العديد من القضايا التي قوضت قدرته على التحكم بالمؤسسات الأهلية في نيجيريا والحياة السياسية، ويمكن تلخيص هذه القضايا على النحو التالي:

1- الفساد السياسي:

إن الفساد السياسي في نيجيريا له أبعاد جذرية، ففي ظل وجود جوناثان في السلطة، فإنّ الجهود التي بذلت للحد من الفساد الحكومي كانت بحدها الأدنى، حتى إن أمريكا، الداعمة لجودلاك جوناثان تعبت من حركة مكافحة الفساد وانتقدت الحكومة النيجيرية بشكل علني، فقد قالت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون في تقريرها لعام 2011 الذي قدمته إلى الكونغرس بشأن ممارسات حقوق الإنسان "الفساد في نيجيريا على نطاق واسع، وانتشاره في جميع مستويات الحكومة وقوات الأمن"، وعلاوة على ذلك، فإنّ حكومة جوناثان قد تجاهلت التنمية في دولة نيجيريا تماشيا مع الدول الأخرى، وقد أدى ذلك في وقت لاحق إلى نقمة الشرائح السكانية على حكم جوناثان وأدى ذلك إلى العنف، وخاصة في شمال البلاد.

2- رفع الدعم عن الوقود:

يبدو أن جودلاك جوناثان لم يدرك تأثير رفع الدعم عن الوقود، وفشل في إدارة الأزمة بأكملها، وبعد أيام عدة من اندلاع أعمال الشغب في يناير كانون الثاني عام 2012، خضعت حكومة جوناثان في نهاية المطاف وقدّمت بعض الدعم للوقود، ولكن كان الوقت قد تأخر كثيرا، كما لحقت أضرار بالغة بسمعة حكومته، وتحولت الطبقة الوسطى في نيجيريا ضد جوناثان، وهي الطبقة التي كانت تدعمه.

3- زيادة التمييز العنصري ضد السكان المسلمين:

لقد ساءت العلاقات بين الحكومة والسكان المسلمين تحت حكم جودلاك جوناثان، فقد تخلى جودلاك جوناثان عن سياسة "استرضاء المسلمين" التي رسم نهجها أوباسانجو، ومن ثَمَّ زاد من التكتيكات العنيفة لقمع مطالب المسلمين، وبدلا من تقديم أفضل الحقوق السياسية وتوفير فرص العمل وتحسين الظروف الاجتماعية كثّفت قوات الأمن من ظلمها للمسلمين، وخاصة في الأجزاء الشمالية من البلاد، وقد خلق هذا رد فعل هائلا عند المسلمين ضد حكم جوناثان، ودفع ببعض الجماعات الإسلامية مثل بوكو حرام لأن تُصبح جماعة تنهج العنف ضد الحكومة من باب رد الفعل على القمع الوحشي الذي اتخذته حكومة جوناثان ضد المسلمين.

وإذا ما أمعنا النظر في القضايا التي تحاصر حكم جوناثان والعنف في البلاد يتبيَّن أنّ هذه القضايا قد صنعتها أمريكا بالتعاون مع جودلاك جوناثان، وذلك للسماح لأمريكا بزيادة تدخلها في أعماق نيجيريا لهدف وحيد وهو تأمين الثروة النفطية في البلاد.

ولتوضيح هذه الصناعة الأمريكية نبيِّن ما يلي:

بالنسبة للفساد السياسي، فعلى الرغم من الاشمئزاز العام تجاه الفساد السياسي في نيجيريا، فإنّ أمريكا تشجعه في الخفاء، كما أنها تسمح للدولة أن تملأ جيوبها أكثر من أي وقت مضى بالمعونة والمساعدات الأمريكية، فهي الطريقة التي تجعل من عملاء أمريكا أكثر ثراءً وهم في خدمة سيدهم، ويسمح أيضا لأمريكا بملاحقة السياسيين الذين يقفون في طريقها ويوالون قوى أجنبية أخرى وأبرزها بريطانيا. وعلاوة على ذلك، فإنّ "المال الفاسد" هو سلاح ذو حدين لعملاء أمريكا: فمن جانب هو ترغيب لعملاء أمريكا بالمال ليبقوا متمسكين بها، ومن جانب آخر هو ترهيب وتهديد لعملاء أمريكا لأنه يجعلهم أكثر اعتمادا على سيدهم، لأنهم يعرفون جيدا أنهم إن هم عصوا أمريكا فإنّه يمكن بسهولة استخدام الفساد كوسيلة لمعاقبتهم وإزالتهم من السلطة.

وأما رفع الدعم عن الوقود، فقد كان بناء على طلب من صندوق النقد الدولي، والذي تسيطر عليه أمريكا، فقد ذكرت هيئة الإذاعة البريطانية: "طالما حث صندوق النقد الدولي الحكومة النيجيرية على رفع الدعم، والذي سيوفر 8 مليارات دولارا سنويا بحسب التقرير" ("نيجيريا تغضب بسبب مضاعفة أسعار الوقود بعد انتهاء الدعم"، بي بي سي نيوز على الانترنت، 2 كانون الثاني/يناير 2012)، وهدفها من وراء هذه الخطوة هو قهر الناس اقتصاديا، وإشغالهم بالعبء الثقيل الناشئ بسبب رفع الدعم عن الوقود، فتصرف أذهانهم بعيداً عن جهود شركات النفط الأمريكية التي تنهب ثروة البلاد النفطية.

أما بالنسبة لطغيان جوناثان على المسلمين، وخاصة ضد بوكو حرام، فقد كان ذلك بهدف توسيع الرقابة الأمريكية على الأجهزة الأمنية في نيجيريا لحماية النفط تحت ذريعة مساعدة مسئولي الأمن النيجيريين في محاربة المتشددين الإسلاميين، فخلال زيارة كلينتون إلى نيجيريا في 9 آب 2012، قال مساعد أمني رفيع "واشنطن ستقدم لنيجيريا مساعدة في الطب الشرعي، لتتبع المشتبه فيهم و"دمج" المسارات المتباينة من الشرطة والاستخبارات العسكرية ..." وأضاف المسئول "إنّ واشنطن ستكون أيضا على استعداد للمساعدة في نيجيريا لتطوير مركز التنسيق الاستخباراتي والتي يمكنها المساعدة في دمج المعلومات (وكالة فرانس برس عبر الإنترنت، 9 آب 2012)

ومع ذلك فإن هذه الصناعة الأمريكية للقضايا المتوترة تريدها أمريكا أن تقف عند حدود إيجاد مبرر للتدخل الأمريكي من أجل تأمين الثروة، ولكن دون أن تصل إلى الحرب الأهلية التي تشل حركة تأمين الثروة النفطية، هذا على الأقل في المدى المنظور.

أما عن الصراع السياسي في نيجيريا فهو مختلف عنه في كينيا، حيث إن لكلا الدولتين، أمريكا وبريطانيا، في كينيا طبقة سياسية متقاربة تخدم مصالحهما، ولكن في نيجيريا، فإنه منذ ولاية أوباسانجو في 29/5/1999 أصبحت الطبقة السياسية الفاعلة هي الموالية لأمريكا، وأصاب الضعف بالتدريج الموالين للإنجليز، ولكنهم باقون بفاعلية أقل، بل تُعدّ فاعليتهم في الصفوف الخلفية بالنسبة للموالين لأمريكا، إلا أن بريطانيا لا تزال تحاول استغلال التوترات المتصاعدة للعودة إلى نفوذها السابق...

وفي الختام فإنه من المؤلم أن تتصارع الدول في بلاد كان للإسلام شأن عظيم فيها... واليوم أصبحت قضاياها في أيدي أعدائها من الكفار المستعمرين، ومع ذلك فإن الأمة الإسلامية لن تبقى صامتة، بل هي بإذن الله في تحرك متصاعد تنتظر من ورائه شروقَ يومٍ جديد يعيد لها عزتها وخيريتها كما وصفها الله سبحانه(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ..)وما ذلك على الله بعزيز.

الثالث من شوال 1433هــ

8/21/ 2012