في صحراء النقب جنوب فلسطين وتحت رعاية ورئاسة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن اجتمع وزراء خارجية أربع دول عربية هي مصر والإمارات والمغرب والبحرين مع كيان يهود على طاولة واحدة، اجتماع عقد على مستوى القمة، وقد رأى فيه البعض اجتماعاً تاريخياً، ربما لأنه يتناقض مع طبيعة الأشياء، ويتصادم مع الحقائق التاريخية في العلاقة بين الظالم والمظلوم، والعلاقة بين الاحتلال والمُحتَل، فكيان يهود المغتصب للأرض المباركة الأصل فيه أنه عدو واجب الإزالة، والحرب هي الحالة الطبيعية للعلاقة معه، بينما الأنظمة العميلة في بلاد المسلمين تجعل منه مكوناً طبيعياً في منطقتنا من خلال اتفاقيات التطبيع، حتى وصل الأمر بهم إلى جعله جزءاً من تحالفاتها الأمنية ومنظومة الدفاع المشترك تحت مبررات محاربة الإرهاب والحقيقة أنهم صناع الإرهاب وليس غيرهم.
لم يكن لقاء النقب سوى رأس جبل الجليد الذي يبتلع في بطنه الكثير من التفاصيل والخطط التي تحوكها أمريكا لإحكام سيطرتها وفرض هيمنتها على منطقة الشرق الأوسط، تلك الخطط التي سيكشف عنها في قابل الأيام، أما الحديث عن التهديدات الإيرانية المزعومة سواء المتعلقة ببرنامجها النووي، أو بتمددها في المنطقة العربية عبر أذرعها في اليمن والعراق ولبنان، فليست إلا أسباباً ظاهرية للتغطية على حقيقة ما تصبو إليه أمريكا، فالنظام الإيراني المرتبط بأمريكا منذ قيام الثورة الإيرانية، لم تنفك أمريكا عن استخدامه كفزاعة تخيف به الأنظمة وخاصة الأنظمة في دول الخليج، وذلك لتبرير وجودها العسكري الضخم في المنطقة بدعوى حماية تلك الأنظمة من التهديدات الأمنية التي تواجهها، فأمريكا هي التي سمحت بتضخم القوة الإيرانية حتى باتت مصدر إزعاج وابتزاز حتى لأوروبا، وهي أيضاً من سمحت بتمدد النفوذ الإيراني في المنطقة لدعمها في حروبها، وخدمة مصالحها، وسعياً لتحقيق أهدافها في بسط السيطرة والنفوذ على بلادنا الإسلامية، فأفغانستان والعراق ما كان لأمريكا أن تدخلهما لولا الخدمات الإيرانية وأدواتها، وإسقاط النفوذ الإنجليزي في اليمن والصراع الدائر فيه حتى اليوم، وإنقاذ النظام المجرم في سوريا ومنعه من السقوط، كل ذلك كان بمساعدة إيران وأذرعها الخبيثة، والتي ربما حان وقت تقليمها فكانت هذه الحملة ضد إيران لإعادة ضبط الموازين، والتغطية على مآرب أمريكا الحقيقية.
وبالأسلوب نفسه اليوم تعمل أمريكا على بيع الوهم للأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين، واستخدام إيران لتكون عدواً مشتركاً للعرب وكيان يهود، فقد تمكنت من جر العديد من الدول العربية لتوقيع اتفاقيات التطبيع الخيانية مع كيان يهود تحت ضغط الخوف من إيران، ومصلحتهم تكمن في التقارب مع يهود وضرورة القفز عن قضية فلسطين لتحقيق مصالح أهم وأكبر، وهي تسعى لتجعل من عداوة إيران مدخلاً لتأسيس حلف عسكري عربي على شاكلة حلف الناتو يكون كيان يهود جزءاً منه، وكما تستغل الناتو الغربي كقوة ضاربة لها في ساحات مختلفة بحجة حماية أوروبا من التهديدات، فإنها ستعمل على استخدام (ناتو العرب-يهود) لتأمين حاجتها من أدوات القتال في ساحات أخرى واستكمال خطتها في خوض حروبها بالوكالة.
وبنظرة أدق وأعمق فإن الدول القائمة في بلاد المسلمين بما فيها كيان يهود الغاصب لا اعتبار لها في خطة أمريكا ورؤيتها للمنطقة، فتلك الدول جميعاً هي دول وظيفية، بمعنى أنها وجدت على الخارطة لتنفذ مهمة محددة وتقوم بوظيفة معينة، تلك المهمة تتمثل في تمزيق وتشتيت شعوب الأمة الإسلامية في كيانات كرتونية هزيلة وحدود وهمية، ونهب ثروات ومقدرات المنطقة لتلبية احتياجات أمريكا من الطاقة لتشغيل مصانعها وآلة حربها، والأهم من ذلك كله منع استعادة الأمة الإسلامية وحدتها وجمع شملها في دولة واحدة هي دولة الخلافة، هذا هو الهدف الأساس وراء تحركات الدولة الأولى في العالم، وما دون ذلك تفاصيل لا يصح الانشغال بها عند قراءة الأحداث والأطراف الفاعلة فيها والأهداف المقصودة منها.
عملياً لم يكشف هذا الاجتماع عن أمر جديد في تبعية الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين للدول الكبرى، وانخراطها في مخططات ومؤامرات خيانية فهي في أصلها قائمة على هذا الدور منذ أكثر من مائة عام، منذ استطاع الكافر المستعمر هدم دولة الخلافة، ولكن المختلف في هذا الاجتماع أن تلك الأنظمة باتت أكثر جرأة على إظهار عمالتها وخيانتها، وبذلك فهي تظهر عداوتها للأمة بشكل سافر، الأمر الذي يستدعي تحرك قوى الأمة المخلصة للعمل على إفشال تلك المخططات الخبيثة، وإحباط مساعي أمريكا الشريرة، عبر قطع أذرعها وأدواتها في بلادنا المتمثلة بالأنظمة الحاكمة في بلادنا، واستثمار هذا التوقيت التاريخي الذي يعيشه العالم، لا سيما أن الأحداث الجارية في العالم اليوم قد أظهرت ضعف الولايات المتحدة في أكثر من قضية، وكشفت عن فقدانها السيطرة واهتزاز مكانتها الدولية، واشتعال الصراع بين القوى الكبرى، وتخبطها إلى درجة أن جميع أطراف هذا الصراع خاسرون، وسينالهم الضرر وإن كان بنسب متفاوتة، مع عدم قدرة أي من تلك الأطراف على حسم الصراع لصالحها، والكل يترقب نشوء كيانات جديدة واندثار كيانات أخرى ليعاد رسم خارطة العالم من جديد وقيام قوى عالمية جديدة تؤسس لنظام عالمي جديد.
وبالنظر إلى تلك القوى فهي عاجزة عن تقديم أي حلول لمشاكل العالم على كافة المستويات، وعلى الأمة الإسلامية وكل القوى الحية فيها أن تأخذ إسلامها بقوة وتعمل بجد واجتهاد لتبني مشروع الإسلام العظيم، وجعله قضيتها المصيرية والعمل مع حزب التحرير لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة لنقتعد مكاننا بين الأمم، ونضع للناس الموازين القسط، ولنصنع الأحداث ونكون الفاعلين والمؤثرين في حياة البشرية ﴿وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾.
بقلم: الأستاذ خالد سعيد
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
المصدر: جريدة الراية