تحركات محمومة ومبادرات مسمومة في تآمر مستمر
الدكتور ماهر الجعبري/عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
 
تكثر التحركات السياسية في الآونة الأخيرة حول القضية الفلسطينية، إذ تشهد الساحة السياسية تحركات للزعماء العرب ولقادة الفصائل الفلسطينية، إثر تحريك أمريكا للملف الفلسطيني، مما يؤشر أن شيئا ما يلوح في الأفق. وفي هذه الأجواء قد تختلط الأوراق على العطشى فيحسبون السراب ماء.
 
وقد ينسى بعض المروّجين لمآثر هذه التحركات ومزايا تلك المبادرات، مشاهد الخزي والعار التي أخرجتها الأنظمة العربية في مسيرتها الطويلة، وقد يتناسون حجم المؤامرة التي حبكها الغرب بشقيه الأوروبي والأمريكي، منذ مشاهد النكبة، فيظنون أن غلي الحجارة يمكن أن ينتج طعاما.
 
وقد تختلط الألوان في صورة المشهد الأمني، وفي تغيير المعنى الأصيل للأمن، من الحفاظ على أمن الناس إلى الحفاظ على أمن المحتل –في فلسطين وفي بقية بلاد المسلمين- والحفاظ على استقرار أنظمة أمنية تحقق مصالح الغرب.
 
وهذا يوجب الذكرى: فالأنظمة العربية هي التي سلّمت فلسطين لعصابات يهودية عندما سحبت جيوشها في مواقف مخزية في عام 1948، ثم هي التي كررت مشاهد الخزي، عندما مكنت كيان يهود من اغتصاب بقية فلسطين عام 1967. والأنظمة العربية هي التي أنشأت منظمة التحرير الفلسطينية للتخلّي عن واجبها تجاه تحرير فلسطين. والأنظمة العربية هي التي خدعت الناس بمنطق "اللاءات الشهيرة" ثم منطق الممانعة في مسيرة ترويضية طويلة، حتى أطلقت مبادرة السلام العربية التي تقضي بالاعتراف بدولة يهود على تراب فلسطين الذي اغتُصب يوم النكبة، في مقابل سلطة هزيلة على الأرض التي استُلبت يوم النكسة.
 
والأنظمة العربية هي التي وقفت تتفرج على مشاهد الطائرات وهي تقذف الفسفور الأبيض على أطفال غزة ونسائها.  والأنظمة العربية هي التي تباشر وتشاهد ألواح الحديد المقوّى وهي تُدكّ أسافين جديدة في بناء الوحدة الإسلامية، وتعزز جدر سايس بيكو، وتخترق الأرض من أجل حصار أهل فلسطين، بعدما تركت السماء مفتوحة للطائرات اليهودية تجوب فيها بحرية وأمان:  فهل يمكن أن تكون هذه الأنظمة أمينة على قضية ضيّعتها المرة تلو الأخرى ؟
 
وما بين النكبة والنكسة قصة طويلة من التآمر والتخاذل، بدأت تضيع معالمها في مناهج تدريس الأطفال، وفي أدبيات "النضال" الفلسطيني الذي يصاغ أمنيا من جديد، وأصبح من يطالب بإزالة آثار النكبة مطلوبا أمنيا لدى الأنظمة، بعد أن مُسحت النكبة من أدبيات "الثورة"، وسطرت مكانها مفاهيم التسول حول النكسة في أدبيّات "أمنية" غريبة عن ثقافة الأمة الجهادية.
 
والأنظمة المستبدة في بلاد المسلمين عموما هي التي تقتل شعوبها في سعيها لتحقيق الأمن الذي تفرضه أمريكا، راعية الاحتلال العالمي، فتفتح سمائها للطائرات تقصف القبائل في باكستان، بعد أن تشكلت أنظمة على المقاييس التي فرضتها الدبابات الأمريكية في العراق وأفغانستان. والأنظمة المستبدة هي التي تحرك الجيوش لضرب القبائل في اليمن وعلى الحدود السعودية، وترسل جيوشها لمطاردة الأكراد في جبال تركيا، وتضرب المجاهدين بالمجاهدين "القدامى" في الصومال، والأنظمة العربية هي التي تعتبر شجارا في ملعب كرة القدم تهديدا للأمن القومي، بينما تصمت عندما يسقط جنود لها على حدود غزة في قصف يهودي, فهل يمكن أن ينتج عن تحركات حكام هذه الأنظمة غير مزيد من التآمر على التقتيل وتنفيذ مخططات الهيمنة الأمريكية ؟
 
تساؤلات تطفو على السطح، وتزداد وقعا، كلما تحركت الوفود في فضاءات هذه الأنظمة وكلما فُرقعت البالونات الفارغة في آفاقها الإعلامية، وكلما علت نبرة الحديث حول تحركات عربية للتقدم في حل القضية الفلسطينية.
 
أي تحركات تلك التي يمكن أن تتمخض عن حل للقضية طالما أن سقفها لا يتجاوز حدود آثار النكسة، وطالما أن شرطها هو تناسي آثار النكبة، وطالما أن منطقها يقوم على استجداء الرسائل "التطمينية" من راعية الإرهاب العالمي، وطالما أن فلسطين في هذه التحركات هي شأن داخلي تتجاذبه فصائل فلسطينية سالت دماؤها فيما بينها، وطالما أن تعريف الأمن قد انقلب عن أمن المواطن إلى أمن الاحتلال، وطالما أن الجنرال الأمريكي –حيثما حلّ- هو الذي يرسم الخطط الأمنية ؟
 
لا شك أن الأنظمة العربية مأزومة أمام شعوبها، وهي بحاجة إلى تحركات سياسية تحفظ مياه وجوهها، وهي مستعدة دائما لعزف سمفونية الجعجعة الإعلامية التي لا تطحن، أو طبخ الحجارة التي لا تغني من جوع. ولذلك فهي تستبشر خيرا كلما علا صوت أمريكا تجاه قضية فلسطين.
 
ولا شك أن أمريكا بحاجة ماسة لتحسين صورتها أمام الأمة الإسلامية، بعدما لطختها حروبها على الإسلام تحت مسمى الحرب على الإرهاب، ولا شك أن أمريكا قادرة على التلويح بالمعونات العسكرية والاقتصادية وعلى تقصير العباءة القانونية التي تستر بها عورات الاحتلال اليهودي في المحافل الدولية، كلما زاد اشمئزاز العالم من وحشية قادة الحرب في هذا الكيان الغاصب. ولكنّ أمريكا لا يمكن أن تتخلّى عن ربيبتها، التي زرعتها لتبقى، ولا يمكن أن تقبل أن يقوى منطق التصدي والمقاومة على منطق الانبطاح في أي مبادرة أو تحرّك في بلاد المسلمين.
 
وطالما أن الأنظمة المتآمرة في بلاد المسلمين لا يمكن أن تخرج عن قوانين اللعبة التي تحددها أمريكا، وطالما أن أمريكا قادرة على فرض الشروط بالنيابة عن الاحتلال اليهودي، فأي أمل ذلك الذي يمكن أن يتشبث به أي صاحب لب سليم في ظل هذه التحركات والمبادرات!
 
إن الأصل السياسي الراسخ أن كل تحرّك أمريكي هو تآمر على المسلمين، وكل مبادرة أمريكية للتقدم بحل القضية الفلسطينية هي مزيد من التمكين للاحتلال اليهودي في فلسطين، وهي ترسيخ لأمنه فوق تراب هذه الأرض المغتصبة.
 
فأي ظروف سياسية تلك التي يمكن أن تكون مواتية للتقدم بمشاريع سياسية تتوافق عليها الفصائل الفلسطينية طالما أن اللاعبين هم أنفسهم ؟ وطالما أن اللعبة هي نفسها! وطالما أن "المتفرجين" هم أنفسهم !
 
إن المناخ السياسي القادر على تغيير اللعبة وقوانينها هو ذاك الذي يستند إلى التغيير الذي يكمن في أمة إسلامية، تخشى أميركا من انبثاق فجرها من جديد في كيان سياسي يمتد من أندونيسيا إلى الأندلس كما كان بوش قد تخوّف منذ سنوات.
 
وإن الظروف المواتية التي تخدم قضية فلسطين هي تلك التي تؤدي إلى تحرير الجيوش من قبضة تلك الأنظمة، ومن ثم قيامها بواجب التحرير الجهادي، بعيدا عن كل مناخات التفاوض السياسي.
 
وهذا المناخ لا يمكن أن يوجد في أروقة الأنظمة المستبدة التي تستعدي ذلك التغيير، وتلك الظروف لا يمكن أن ترعاها أمريكا ولا أوروبا، التي تستشرف خطر ذلك التحرير. ومن هنا كان لزاما على المخلصين من أبناء المسلمين أن يستحثوا مراكز التنبّه في عقولهم حول تلك التحركات المحمومة والمبادرات المسمومة، حتى لا تمرر عليهم المؤامرات التي تكمّل مسيرة دحرجة القضية الفلسطينية في المهاوي التي سقطت فيها منذ ما قبل النكبة.