عاش في صومعته عابدا ناسكا، معتزلا الناس خشية أن يفتنوه عن عبادة ربه وأرهق الشياطين بصلاحه وتقواه، فعقد إبليس مؤتمرا لإخراج برصيص الناسك من عالمه... وبعد مداولات تعهد احد الشياطين بإغواء برصيص، وانطلق بثياب ناسك إلى صومعة برصيص ووقف ببابه، فتح له العابد الباب فلم يجد منه إلا الصلاة والتمسك، وبعد عام قرر الشيطان مغادرة برصيص بعد أن علمه كلمات ادعى أن الله يشفي بهن السقيم وخرج، ... ذاع صيت برصيص وفتح صومعته يساعد الناس ويداويهم .....ولما أصاب المرض بنت الملك لم يجدوا إلا برصيص الناسك لعلاجها...أغواه الشيطان...فحملت ..أغواه ليستر الفضيحة ويتفرغ للعبادة .. فقتلها ودفنها..انكشف الأمر فصلب برصيص وقيد .....جاءه الشيطان عارضا عليه المساعدة وتخليصه شرط أن يسجد له .. ولكني مقيد ولا أستطيع السجود .....فأجابه.. إيماءة من عينيك تكفيني.
رويت قصة برصيص بصور عدة وتناقلتها الكتب والألسن لما فيها من عبرة ..فالعالم لم يخلو يوما من العباد أو الشياطين..والمعركة دائرة لم تتوقف.
فعندما تتفرد دولة بقيادة العالم وتفرض قوانينها وأنظمتها عليه، يصبح كل من لا يجاريها خارجا عن النظام مارقا ضمن محور الشر لا شرعية له ،إرهابيا أو ثائرا متمردا على الإرادة الدولية والمجتمع الدولي منعزلا في صومعته, لكن الناس قد يفتتنوا بإخلاصه وبياض يده وقد يتأثروا بأفكاره التي تلامس أعماق قلوبهم فيتمردوا،وبذلك يشكل خطرا يهدد مصالح الدولة الأولى و يقف عائقا أمام تنفيذ مشاريعها، ولا سبيل للتخلص منه بسهولة فالناس ترى فساد الآخرين وتقارنهم بصلاحه وصدقه ..وتبدأ المعركة لإخراج العابد من صومعته بإقناعه بضرورة تقديم المساعدة للناس وخدمتهم وعدم تركهم للفاسدين يحطمون آمالهم و يتحكمون بحياتهم ومصيرهم   وحتى يكون خروج الناسك للعالم والمجتمع الدولي شرعيا تجرى انتخابات ليفوز بأغلبية أصوات الجماهير المتعطشة للتغيير والتخلص من الواقع المرير، وهكذا يدخل الناسك العالم الجديد تحت مظلة قوانين المجتمع الدولي ومتطلباته، وتحت ضغط الواقع والاتفاقيات الموقعة والاشتراطات الدولية تصبح قوانين الصومعة قديمة مرتجلة تحتاج للتعديل ومسايرة العالم وقد تغير باستفتاء عليها أو تلغى في اجتماع مركزي.
وحتى تصبح دولة الناسك عضوا في المجتمع الدولي تتلقى مساعداته لتدفع رواتب موظفيها وترفع الحصار عن مواطنيها التي جاءت لخدمتهم ، وهنالك استحقاقات أو شروط يجب أن توافق عليها ومشاريع للدولة الأولى لا يجب أن تعطلها وإلا حوصرت واتهمت بالخروج على المجتمع الدولي ، وقد تكون تلك الاستحقاقات مريرة على نفس الناسك متعارضة مع ثوابته متنافية مع ما اعتاد الناس عليه من تمسك الناسك بالحقوق وصلابته في الدفاع عن المقدسات..وحتى لا ينفض الناس عن الناسك ويضيع جهد الدولة الأولى في إخراجه من الصومعة هدرا وتخسر تأثير الناسك على الناس قبل أن يعطيها صك الشرعية لمشاريعها وأدواتها...فإن الدولة الأولى ستكتفي في هذه المرحلة بايمائة من عينيه تبقي على هالة الصلاح والروحانية التي كانت سبب حب الناس له، فتهمس في أذنه عبر الوسطاء والرؤساء السابقين ... إيماءة من عينيك تكفيني.
و لعل الجدل الذي يعقب بعض الخطابات والتصريحات السياسية يعود لما فيها من غموض و إيماءات، قد تربك الصورة عند البعض لكنها سرعان ما تتكشف ، فقد شهد العراق والصومال وغيرهما أمثلة على نساك سرعان ما تخلوا عن صوامعهم و ساهمت الأحداث في إزالة هالة النساك عنهم، ويتمنى البعض أن لا يكون غموض بعض المواقف بخصوص الاعتراف بإسرائيل والقبول بحل الدولتين إيماءة للتنازل عن فلسطين والأرض التي بارك الله حولها ،لكن بعض التصريحات تكشف تورطا اكبر من مجرد الإيماءة.
يفسر بعض العلماء مصيبة برصيص ووقوعه في المنكر بغلبة عبادته على علمه؛ فإنهاض الأمة ورفع شأنها ومساعدة الناس في حياتهم وتخليصهم من الظلم والاحتلال لا يكون بالدخول في دائرة المجتمع الدولي والرضا بقوانينه وتشريعاته واستحقاقاته التي تضمن تفوقه وتحافظ على مصالحه واستمرار نهبه لثروات الأمة ومقدراتها .فالنهضة إنما تكون بتفعيل مشروع الأمة الحضاري في دولة واحدة تطبق الأحكام والأنظمة التي تعتقدها الأمة وان خالفت قوانين العالم وقلبت الطاولة على الجميع، بهذه الطريقة تستقل الأمة وتصبح الأولى في العالم تضع القوانين وتفرض الحلول وتحمي الديار وتساعد البشرية وتخلصها من قانون الغاب وظلم الرأسماليين ومكائد الشياطين.
وعودة لمصير برصيص.... فبعد سجوده للشيطان بتلك الإيماءة...قتل وصلب وطار الشيطان فرحا قائلا... هذا ما أردت منك.
  د.مصعب أبو عرقوب
13/7/2009