بسم الله الرحمن الرحيم

في الكنانة إزاحةٌ للكراسي... على حساب استمرار المآسي!

 أصدر الرئيسُ المصري مساء أمس قراراتٍ ذات دلالة لافتة للنظر، كان أبرزها إحالة المشير طنطاوي رئيس المجلس العسكري ونائبه الفريق عنان رئيس الأركان على التقاعد... وقد جاءت تلك القرارات في الوقت الذي تتصاعد فيه الأعمالُ العسكرية في سيناء ضد (المسلحين)، وتتصاعد فيه مداهمات الشرطة للبيوت اعتقالاً (للمتهمين)، وتتقاطر فيه الآليات لإغلاق الأنفاق تشديداً للحصار على المحاصرين!

إن المتتبع للأحداث السياسية في مصر يدرك أنه ما كان لمصر أن تستمر برأسين: المجلس العسكري بصلاحيات كبيرة، والرئيس المصري بصلاحيات منقوصة، وكان متوقعاً الإطاحة بأحد الرأسين، وإنما هي مسألة وقت انتظاراً لأقرب الأجلين! وكذلك فإن المتتبع للأحداث السياسية يدرك أن أمريكا مدَّت، وتمدُّ، أذرُعَها داخل الأوساط السياسية القديمة ممثلةً في المجلس العسكري وأتباعه، وكذلك داخل الأوساط السياسية الجديدة بعد الانتخابات ممثلةً في الرئيس المصري وأعوانه، وليس سراً تلك المحادثات السياسية في الفترات السابقة مع مسؤولين في الأوساط السياسية الجديدة، وبخاصةٍ بعد 25 كانون ثانٍ-يناير، وأنها خلصت إلى أن وصول هؤلاء إلى الحكم لن يغير في طبيعة النظام الجمهوري والدولة المدنية، ولا في المعاهدات الدولية وبخاصة اتفاقية كامب ديفيد الخيانية، ولا يؤثر كذلك في مصالح أمريكا في المنطقة العربية...

ومع ذلك فإن أمريكا كانت ترى في المجلس العسكري والوسط السياسي القديم أنهم الأقدر على تحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية والعسكرية من الوسط السياسي الجديد الذين لم تختبرهم من الناحية العملية بعد، لهذا فهي كانت تدعم المجلس العسكري وتقوي صلاحياته فوق ما تدعم به الرئيس المصري والأوساط السياسية الجديدة...، واستمر ذلك النهج في الموقف الأمريكي حتى زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون في 14/7/2012، ثم تبعها في31/7/2012 وزير الدفاع الأمريكي ليون بانيتا، واجتماعُهما بالرئيس المصري والمشير طنطاوي ونائبه في المجلس العسكري ما أظهر للخارجية الأمريكية أن استمرار الرأسين يؤثر في مصالحها، ويضاعف من اضطراب الأمور، وبخاصة وأن المشير ونائبه كانا ركنين أساسين في النظام القديم ما يوجد استفزازاً في نظرة الناس إلى النظام القديم من خلالهما!

لقد لوحظ بعد تلكما الزيارتين أن صوت المجلس العسكري في الحياة العامة قد أصبح خافتاً مهموسا، وصوت الرئاسة المصرية قد أصبح عالياً مسموعا، وكان واضحاً أن ذلك هو مقدمة للقرارات الأخيرة التي سبقها اجتماع تشاوري بين الرئيس المصري والمجلس العسكري كما صرح بذلك (لرويترز) اللواء محمد العصار نائب وزير الدفاع الجديد، ومن ثم تمخض الاجتماع عن تلك القرارات لتُعلنَ في الوقت المناسب... وعلى الرغم من أن طنطاوي وعنان كانا رُتَباً عاليةً في الجيش، وأنهما قد خدما مصالح أمريكا بقوة، إلا أن أمر إحالتهما إلى التقاعد تمَّ ناعماً نعومةً لم تكن الأذرعُ الأمريكية بريئةً من صقلها! ومع أن أتباع الكفار المستعمرين يرون رأي العين كيف تلفظهم أمريكا عندما ينتهي دورهم إلا أنهم لا يعتبرون ولا يتعظون ولا يرعوون!

لقد صمتت الدوائر الرسمية الأمريكية طوال الليلة الماضية عن التعليق على ما حدث لتمر الأمور دونما ضجيج، ثم كشفت المستور الذي كان خلف أبوابٍ مثقوبة! فصرحت اليوم 13/8/2012 فكتوريا نولاند الناطقة باسم الخارجية الأمريكية تعليقاً على تلك القرارات أنه (عندما كانت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في مصر ثم تبعها وزير الدفاع ليون بانيتا فهمنا وقتها أنه سيكون هناك تغيير وسيكون تشاورياً، ومن هذا المنظور فإن هذا التغيير ليس مفاجئاً لنا)! ومن ناحية أخرى فقد أكد متحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية (أن المسؤولين في البنتاجون يعرفون القادة الجدد للقوات المسلحة في مصر...)! ولذلك فإن القيادة العسكرية الجديدة لا تختلف

 عن القيادة العسكرية القديمة إلا في استبدال الوجوه، وأما في السير العام فالاتجاه واحد...

أيها المسلمون، إن هذا التغيير الناعم كان يمكن أن يتم دون سفك الدماء في سيناء، وبخاصة وأن وزير الدفاع الجديد الفريق أول عبد الفتاح السيسي هو عضو في المجلس العسكري الذي عينه مبارك، وهو أصغر الأعضاء سناً، ومن أنشطهم، وكان له تأثير واضح في قرارات المجلس باعتباره مدير المخابرات العسكرية والاستطلاع، رغم عدم ظهوره كثيراً بسبب طبيعة عمله في المخابرات العسكرية... فهو والحالة هذه من عظام الرقبة في المجلس العسكري كالمشير والفريق سواءً بسواء! إلا أن الأذرع الأمريكية أرادت أن تكون زحزحة الكراسي مخضبةً بالدماء في سيناء، ومعنونةً بإغلاق الأنفاق، فكان أن تم استغلال وجود مسلحين في سيناء كانوا يقلقون راحة كيان يهود، ومزاعم دخول هؤلاء من الأنفاق التي كانت تمد غزة بالحياة... تم استغلال ذلك لتأمين سيناء من أية مقاومة تجاه الكيان المغتصِب لفلسطين، فإن الأمن هو هاجس كيان يهود الذي تأخذه أمريكا مأخذ الجد، فقد صرح وزير الدفاع الأمريكي خلال زيارته لمصر معرباً عن (قلق الولايات المتحدة من التهديدات الأمنية في سيناء وتهريب الأشخاص والأسلحة على الحدود) وأضاف (وكان هناك تفهم بأننا سنستمر في العمل معا للوصول بأي طريقة ممكنة للأمن...) وقد نشرت نحوه صحيفة نيويورك تايمز في 11/8/2012 (الولايات المتحدة ومصر تحاولان وضع خطة أمنية جديدة لمواجهة تدهور الوضع في سيناء)، هذا من جهة أمن كيان يهود، ومن جهة أخرى فهو تهيئةُ الأجواء لإغلاق الأنفاق، شريان الحياة لقطاع غزة، دونما فتحٍ حرٍّ وكاملٍ للمعابر! أي أن وسيلة الإخراج لهذا التغيير الناعم برعاية أمريكية كانت الدماء التي سالت في سيناء والطَّرْق على صفحة إغلاق الأنفاق من جديد كما كان يصنع الطاغية مبارك!

أيها المسلمون، إن مصر هي قلعة الإسلام، ومنطلق الفتوحات، ومبعث الانتصارات على أعداء الإسلام من الصليبيين والتتار... وهي حاضنة الخلافة بعد القضاء عليها في بغداد، وهي حلقة الوصل بين الخلافة العباسية والخلافة العثمانية... وحريٌ بها اليوم أن تكون منطلق الخلافة من جديد، ومنطلق الزحف لتحرير فلسطين من رجس يهود الغاصبين... لا أن تكون منطلق التغيير الأمريكي لإزاحة الكراسي من اليسار إلى اليمين!

ونختم البيان بتكرار النصح للرئيس المصري محمد مرسي حتى وإن لم يأخذ بنصيحتنا الأولى... فإننا لن نيأس من النصح لكل مسلم، وبخاصةٍ إذا كان متلبساً بالحكم، فنُتْبِع نصيحتنا الأولى بأخرى قائلين: إنه وإن كانت الأذرع الأمريكية ممتدة إلى الأوساط السياسية القديمة والجديدة إلا أن قطعها ممكن ميسور، وتداركُ خطأ استقبالها مرة خيرٌ من التمادي في خطأ استقبالها مرات، فإن الأذرع الأمريكية لا ينفع فيها التودد والتقرب...بل هو القطع والبتر لهذه الأذرع، وإلا فالندم ولات حين مندم! وكنانةُ الله في أرضه هي ذات قوة ومنعة، وسابقتها في ذلك مشهودةٌ معدودة، ومن كان حقاً مع الله فقد غلب، فآي الذكر الحكيم ينطق بذلك، وقد ردده الرئيس المصري في خطابه الأخير {والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}، نعم، صدق الله، {ومن أصدق من الله حديثا}.

ألا هل بلغنا اللهم فاشهد... ألا هل بلغنا اللهم فاشهد... ألا هل بلغنا اللهم فاشهد

 25 من رمــضان 1433

الموافق 2012/08/13م

حزب التحرير