الدعوة للمفاوضات مع يهود جريمة وسير في مشاريع الكفار لتصفية قضية فلسطين مميز

 بقلم: الأستاذ خالد سعيد*

عن الراية

في ظل حالة التردي التي تعيشها المنطقة، وتغوّل القوى الاستعمارية على أمتنا الإسلامية، ينهزم البعض، ويصاب بقصر النظر، وسطحية التفكير، مبرراً ذلك بواقعية الرؤية، وعملية الحلول والمعالجات، وفي هذا الإطار تتعالى بعض الأصوات النشاز هذه الأيام بإمكانية التفاوض مع يهود، وعقد تسوية ما عبر هدنة طويلة أو قصيرة الأمد، والمبررات والأسباب لذلك لا تكاد تنتهي، ولكن أبرز ما يُسوقون به أطروحاتهم في هذا الشأن هو المسوغ الشرعي، وعدم وجود موانع شرعية لذلك، مع استدعاء نماذج وتجارب تاريخية لمعاهدات تم عقدها بين المسلمين وأعدائهم على مر العصور، وهو ما سنحاول التعرض له في مقالنا هذا كي نوضح المسألة ونجلي الأمر، ونزيل الغشاوة عن العيون لعل في ذلك ذكرى للذاكرين.

 

لا شك بأن المعاهدات من المسائل السياسية المتداولة في الإسلام، فمنها ما هو جائز ومنها ما هو محرم، ولكل منها حيثيات وظروف وواقع معين، بحيث تحقق مصالح المسلمين بما تراه الدولة الإسلامية ضمن السياسة الشرعية.

 

لكن الحديث عن كيان يهود، يحتاج لدراسة خاصة، فلا تنطبق عليه الأحكام التي بُحثت في الفقه الإسلامي فيما يخص المعاهدات والاتفاقات السياسية، ولا يمكن قياس أي من تلك الحالات التي مرت تاريخياً على المسلمين على العلاقة مع كيان يهود؛ لأنه في أصل وجوده على أرض فلسطين ككيان محتل غاصب حالة فريدة من نوعها لم يعهدها المسلمون من قبل.

 

فهو كيان مغتصب لفلسطين ووجوده مرتبط بهذا الاغتصاب، ولا يوجد كيان ليهود خارج فلسطين، ولا هو جزء من أي دولة من دول العالم، وعليه فإن أي عملية تعاون مع هذا الكيان نظرياً أو عملياً، سياسياً أو اقتصادياً، إنما تعني إقرار هذا الكيان في اغتصابه للأرض المباركة فلسطين، وإقراراً بحقه في الوجود عليها، مهما حاول البعض أن ينفي ذلك، أو أن يبرره، فلا لقاء مع يهود إلا في ساحات القتال، ولا حديث سوى حديث السلاح، لذا فالواجب العمل على إزالة هذا الكيان وإزالة كل ما ترتب على اغتصابه من آثار، وإعادة الحق إلى أهله، وإرجاع فلسطين إلى حظيرة الإسلام وديار المسلمين، وهو أمر تتحمل مسؤوليته الأمة الإسلامية، ولا يقع على عاتق أهل فلسطين وحدهم.

 

فالغصب في الإسلام محرم، وأخذ الشيء بغير حق جريمة لا يسمح الإسلام بها، والمغتصب ملزم بإعادة ما اغتصب مهما طال الزمان أو قصر، بل إن الإسلام يجرّم كل من يعاون ذلك المغتصب فيما اغتصب، ويمنع أي شكل من أشكال ذلك التعاون، وذلك واضح في الحديث عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ:صلى الله عليه وسلم  «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ، حَتَّى تُؤَدِّيَهُ».

 

هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن كيان يهود كيان كافر، لا يجوز أن يُجعل له سلطان على المسلمين، أو على أرض الإسلام، لقوله تعالى: ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، فالقتل، والإخراج من الديار، والمظاهرة على الإخراج، جميعها أفعال إجرامية قد مارسها كيان يهود بحق المسلمين في فلسطين وغيرها، فكيف لمسلم أن يغفر له جرائمه؟!

 

أما من حيث إسقاط تجارب تاريخية على واقع هذا الكيان والعلاقة معه، فهي استدلالات في غير محلها، ومجانبة للصواب، فمثلا صلح الحديبية لا مجال للقياس عليه، لأن قريشاً في مكة كانت كياناً قائماً بذاته على أرضها، ولم تكن قوة محتلة لأرض إسلامية حين فاوضها النبي:صلى الله عليه وسلم  ، وعقد معها الصلح، وعلى العكس إن كنا نزن الأمور بميزان الربح والخسارة، فالمسلمون هم الذين كسبوا في ذلك الصلح، فقد كانت دولتهم ناشئة، وغير مقبولة دولياً إن صح التعبير، وبهذا الاتفاق تمكنت الدولة الإسلامية من تثبيت وجودها باعتراف مكة بها، وأصبح من يريد أن يقيم علاقة معها ويخشى قريشاً سابقاً، أصبح قادراً على أن يقيم تلك العلاقة؛ "فمن أراد أن يدخل حلف محمد فله ذلك ومن أراد أن يدخل حلف قريش فله ذلك"، ولذلك جاء القرآن الكريم يُعلق على صلح الحديبية قال تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا﴾.

 

أما عن معاهدة يهود المدينة، فمنها ما تم مع رعايا الدولة من باب تنظيم العلاقات الداخلية للمجتمع، وتبيان الحقوق والواجبات بين عموم أفراد المجتمع، وذلك كما نصت عليه وثيقة المدينة في العلاقة مع بني قينقاع، ومنها ما كان من باب المعاهدات الخارجية، والتي هي نوع من أعمال السياسة الخارجية للدولة، كما كان مع بني النضير وبني قريظة، ولم تكن أي منها معاهدات مع قوة احتلال أقامت كيانها على أرض إسلامية، فيهود المدينة موجودون فيها وحولها قبل قدوم النبي:صلى الله عليه وسلم  إليها، ومع إقامة الدولة أراد:صلى الله عليه وسلم  أن ينظم العلاقات، ويضبط إيقاع حياة المجتمع بأحكام الإسلام، ويؤمن مصالح رعايا الدولة بما يحقق الاستقرار والأمان.

 

وأما ما عقده صلاح الدين الأيوبي رحمه الله مع الصليبيين من صلح والمعروف بصلح الرملة، فقد كان هدنة عسكرية عُقِدَت مع إمارات وممالك هي امتداد لدول لها وجود واقعي في أوروبا، وليس ككيان يهود الذي هو غاصب وقائم كله على أرض المسلمين، مع ملاحظة أن فعل صلاح الدين الأيوبي رحمه الله ليس دليلاً شرعياً ليُستدل به على جواز التفاوض السياسي أو الصلح مع كيان يهود، كما لا بد من ملاحظة أن صلاح الدين كان أميراً ضمن منظومة الدولة الإسلامية، ولا يتحرك في حربه أو سلمه إلا من خلال رؤية الدولة الإسلامية، والتي تمثل المسلمين، ومخولة شرعاً للقيام بتلك الأعمال السياسية، بينما اليوم لا يوجد دولة للمسلمين، ولا يوجد من يزعم تمثيلهم.

 

ومن هنا فإن واقع التفاوض السياسي مع كيان يهود من قبل الأنظمة أو السلطة أو الحركات أنه حرام شرعاً، وهذا الكيان لا شرعية له حتى ولو كان موجوداً على أرض الواقع، وحتى لو اعترف به الناس، فالإسلام لا يعترف بوجوده، تماماً كحال رجل كافر تزوج امرأة مسلمة، وسجّل زواجه في دولة تقر قوانينها بذلك، فصار زوجاً لها في الواقع، يعيش معها عيش الزوج، ويرعاها رعاية الزوج، وينجب منها ككل الأزواج، فهذا الزواج وإن كان موجوداً على أرض الواقع، وإن كان معترفاً به في قانون هذه الدولة، فإنه زواج باطل وغير موجود في الإسلام، فلا اعتبار له، ولا اعتبار لكل ما يترتب عليه.

 

ثم إن جريمة الإقرار بشرعية كيان يهود على هذه الأرض من خلال التفاوض السياسي معه تلحقها جريمة أخرى، وهي حشر فلسطين وأهلِها في الإطار الوطني الضيق الذي أراده الكفار المستعمرون لها بعد سلخها عن بُعدها الإسلامي، في إطار السعي لتصفية القضية.

 

لذا لا بد أن يكون واضحاً بأن الصراع مع يهود لا يقف عند حدود معينة، أو مكتسبات مادية، أو تحسين ظروف معيشية، بل هو صراع وجودي، وأي تهاون مع هذا العدو يعني فقدان وجودنا، وإقرارنا بحقه في الوجود على الأرض المباركة فلسطين، وهو ما يعني الإجرام بحق ديننا، وأمتنا، وملايين التضحيات التي بُذلت منذ الفتح العُمري لها وحتى يومنا هذا للمحافظة على هويتها الإسلامية.

 

وفي سبيل منع هذا الانهيار والسقوط، وإفشال كل مشاريع التصفية للقضية باختلاف الأسماء والمسميات، وباختلاف القوى الدولية الاستعمارية وأدواتها من الحكام التي تقف وراء تلك المشاريع، ينبغي إعادة القضية إلى أصلها، بوصفها قضية إسلامية لا وطنية، والأمة مستعدة للقيام بواجبها في ذلك، وهي تتحين الفرصة في كل مناسبة للتعبير عن ذلك، ما يكشف عن قدرة حقيقية لإنجاز التحرير الكامل لفلسطين، وإنهاء وجود كيان يهود بالضربة القاضية، وهنا يلزم جميع الحركات، والأحزاب وبخاصة حركات المقاومة، أن ترفع من حالة الوعي السياسي لديها، وتقطع علاقتها مع تلك الأنظمة في بلاد المسلمين، والتوقف عن الركون إليها بحجة الدعم والمساندة، ولا أستثني أحداً من تلك الأنظمة فجميعها أداوت للاستعمار في بلادنا، وهي أهم جدار يقف في وجه تحرك قوى الأمة وعلى رأسها الجيوش لتحرير فلسطين.

 

وعن الأوضاع المعيشية الصعبة التي يعاني منها الناس فلا يخفى على أحد أنها أسلوب خسيس للضغط على الناس، وانتزاع التنازلات منهم تجاه قضيتهم وحقوقهم ومقدساتهم، وهو أمر مدرك فلا يصح أن نقع في شركه، ثم نطلب الحل ممن صنع لنا الشرك من القوى الاستعمارية وعلى رأسها أمريكا، فتصبح الإرادة الأمريكية ومشاريعها موضع التنفيذ تحت غطاء مطالبة الجماهير، وعبر الرغبة في حماية الرؤوس، والبحث عن موطئ قدم لدى ما يسمى المجتمع الدولي المجرم على حساب القضية، والخضوع لسياسة العصا والجزرة.

 

أنتم يا أهل فلسطين خط الدفاع الأول، وإنما يراهن على سقوطكم لإسقاط الأمة وتضييع القضية، وبصبركم وعزمكم، وعدم التعاطي مع أي من تلك المشاريع، وبالأخذ على أيدي المتهاونين، يمكن أن نتجاوز هذه المحنة ونفشل ما يخطط لنا ولقضية فلسطين، ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

 

 *عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة فلسطين