بقلم المهندس باهر صالح/ عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
قد يستغرب المرء ويُصاب بشيء من الدهشة وهو يرى مواقف تركيا الأخيرة وعلاقتها مع "إسرائيل"، فمن جانب يسمع تصريحات أردوغان النارية التي ينتقد فيها بانتظام "إسرائيل" بسبب غاراتها على قطاع غزة وخاصة الهجوم الدامي لجيشها على القطاع في الشتاء الماضي، بل وانتقاده موقف القادة المسلمين حيال معاناة فلسطينيي قطاع غزة ووصف بأنه "يدعو للرثاء"، ثم تعاطفه مع قافلة شريان الحياة وتأييدها ومشاركة بعض النواب الأتراك فيها، ومن ثم رفضه ورفض رئيس الجمهورية عبد الله غول لقاء إيهود باراك.
ومن جانب آخر يرى المرء تركيا وقد رحبت بزيارة إيهود باراك إلى أنقرة التي التقى خلالها وزير خارجية تركيا ووزير الدفاع ورئيس أركان الجيش، والتي أكدت بعدها "إسرائيل" وتركيا مواصلة تعاونهما، وخصوصا العسكري. ثم تصريح وزير الدفاع التركي وجدي غونول: "إنّنا نعيش في منطقة واحدة ونتقاسم المصالح نفسها، نحن شركاء إستراتيجيون ما دامت مصالحنا تدفعنا إلى إن نكون كذلك"، بل وقوله "ستكون هناك مشاريع دفاعية أخرى مشتركة من دون أن يحدد ماهيتها".
ويرى المرء تركيا تعقد صفقة شراء عشر طائرات من "إسرائيل" بقيمة 180 مليون دولار. ومؤخراً نرى وفداً "إسرائيليا" يرأسه عضو الكنيست أيوب قرّا من حزب الليكود وقد توجه إلى تركيا من أجل بحث صفقة التبادل مع جلعاد شاليط.
ومن جانب ثالث يرى المرء حزب العدالة والتنمية ذو الجذور الإسلامية وهو يدافع عن الحجاب وعن بعض المظاهر الإسلامية في تركيا، ويحرص على إبقاء تركيا في منظمة المؤتمر الإسلامي، بل أكمل الدين إحسان أوغلو هو أمينها العام حالياً، ويتقرب حزب العدالة والتنمية أكثر وأكثر إلى العالم الإسلامي ويخطب وده في كل مناسبة تحين، في الوقت الذي نرى تركيا عضواً في حلف النيتو الذي يغزو أفغانستان البلد المسلم، بل وتحتل قيادة الحلف في أفغانستان، ويرى تركيا وهي تحتضن قاعدة "أنجرلك" الأمريكية الضخمة التي انطلقت منها المقاتلات الأمريكية وهي تغزو العراق وما زالت، بل وتفاخر أمريكا وتركيا بأنهما حليفان استراتيجيان.  
فالصورة قد تبدو معتمة وغير واضحة المعالم، فهل تركيا تعادي "إسرائيل" وتناصر العرب والمسلمين؟ أم أنّ تركيا تتحالف مع "إسرائيل" ولكنها تتظاهر بعدائها لأهداف ومآرب أخرى؟ أم أنّها تحافظ على شعرة معاوية كما يقولون؟ أم أنّها براغماتية إلى درجة غابت فيها شخصيتها فلم يعد المرء يعرف لها لوناً أو طعماً معيناً؟ وهل تركيا تحالف الغرب وعلى رأسه أمريكا أم ماذا ؟
في الحقيقة المسألة أبسط بكثير من أن يصعب حلها، ولكنها تحتاج فقط إلى وضع الأمور مواضعها، وتفسير كل ظاهرة في سياقها.
فحزب العدالة والتنمية يحافظ على طابعه الإسلامي لأن الإسلام هو من أوصله إلى الحكم، وإلا فإنّه قد صرح وأكثر من مرة على أنه حزب علماني وأنّه لا يسعى لتقويض مبادئ الجمهورية العلمانية الأتاتوركية، لذلك نرى الحزب كلما أراد أن يخوض معركة انتخابية خاض قبلها مسرحية ترفع أسهمه الإسلامية، مثل ذلك المشهد الدرامي الذي مثّله أردوغان في مؤتمر دافوس قبل الانتخابات البلدية التي فاز فيها حزبه، بعد أن أوجد صدى لبطولة قائد الحزب من خلال المسيرات التي سيرها الحزب تأييداً لموقف أردوغان في مؤتمر دافوس، حتى يسمع بذلك المشهد من لم يسمع به من الجماهير، فكان له ما أراد. فسياسة الحزب على المستوى المحلي تُختصر في الإبقاء على قاعدته الجماهيرية ذات التوجه الإسلامي.
أما إقليمياً وعالميا، فتركيا تتصرف كحليف مخلص لأمريكا التي تنظر لتركيا على أنّها البلد الإسلامي المهم والقادر على تقوية الهيمنة الأمريكية في مناطق حساسة من العالم الإسلامي والقادرة على حماية مصالح أمريكا.
وتركيا مؤهلة لهذه المهمة، فموقعها الاستراتيجي، وتاريخها العريق وعلاقتها الحضارية التي تربطها بالعالم العربي والإسلامي، والنظام العلماني الذي تُحكم به تحت غطاء الإسلام، ومرور أنابيب الطاقة القادمة من وسط آسيا إلى أوروبا بتركيا، كل ذلك يجعل منها قوة قادرة على لعب دور مؤثر وفعال.
ولما زادت حاجة أمريكا إلى تركيا في ظل قرب نهاية حكم مبارك لمصر، وتردد السعودية في مساعدة أمريكا في خططها، وضعف سوريا برئيسها الحالي، وفي ظل أزمة أمريكا الحقيقية في العراق وأفغانستان، وصراعها من أجل السيطرة على الشرق الأوسط، لذلك دفعت أمريكا تركيا إلى لعب دور أكثر فاعلية في الشرق الأوسط فدفعت برجب طيب أردوغان وعبد الله غول للعب دور الوسيط في مباحثات السلام السرية بين "إسرائيل" وسوريا، وبين إسرائيل وباكستان، وقيادة النيتو في أفغانستان، وتطبيع علاقاتها مع أرمينيا، كما مهدت أمريكا لتركيا الطريق باتجاه تقويتها في الجانب السلمي للطاقة النووية.
ولذلك أيضا دفعت أمريكا تركيا إلى مزيد من التقرب إلى العالم الإسلامي الذي ربما تكون فلسطين بوابته العريضة، لتكون لاحقاً رجل أمريكا في الخطط الشرق أوسطية، فهي تتقرب إلى الفلسطينيين بالخطابات النارية التي يشتاق إليها الفلسطينيون في ظل انعدام المواقف الفعلية أو حتى الخطابية من غير تركيا، حتى وصل ببعض المسلمين أن يتمنوا في تعقيب لهم على مسرحيات أردوغان "الجميلة" بأن يرزق الله العرب أردوغان وغول عربيين. وهكذا فقد روجت تركيا لنفسها جيداً عند الفلسطينيين وعند العرب فباتت تركيا جاهزة لتكون وسيطاً مقبولاً ومرحباً به في أي مشروع شرق أوسطي تحتاج فيه أمريكا إلى تذليل الصعوبات أو استدرار المزيد من التنازلات من الجانب الفلسطيني أو العربي، خاصة والكل حينها لن يرغب في إغضاب "الصديق الوحيد" الذي خرجوا به من الدنيا!.
ومن جانب أخر تقوي تركيا من علاقتها مع "إسرائيل"، بصفقة سلاح تحبها "إسرائيل"، ووساطة مرغوبة بينها وبين باكستان وكذلك سوريا، وربما دخولها وسيطاً في عملية تبادل الأسرى بشاليط.
وبذلك تصبح تركيا حجر الرحى في خطط أمريكا في العالم الإسلامي دون أن يرى منها الفلسطينيون أو المسلمون شيئا سوى ما يسمعونه من كلام يدغدغ مشاعرهم. ولا أدل على ذلك من أنّه لم يكن قد مر أيام على إهانة السفير التركي بتل أبيب حتى رحبت تركيا بزيارة ايهود باراك إلى أنقرة والتقاه كل من وزير الخارجية ووزير الدفاع في حكومة حزب العادلة والتنمية. والتصريحات الأخيرة التي أكدت فيها تركيا على علاقتها الإستراتيجية ومصالحها المشتركة مع "إسرائيل".
بعبارة مختصرة، تركيا هي الحصان الجديد الذي تمتطيه أمريكا، وهذا ما صرح به أوباما عندما زار أردوغان واشنطن في كانون الأول 2009، حيث قال أوباما "إنّ التزام تركيا جلب استقراراً لأفغانستان" وقال" أعتقد أنّ تركيا تستطيع أن تلعب دوراً مهما في تحويل إيران عن الاتجاه الذي تسير فيه."
فلا يجب أن ينخدع المسلمون بالدور المشبوه الذي يمارسه حكام تركيا لتنفيذ مصالح أمريكا في المنطقة، ولا يجب أن تختلط الأمور علينا فلا نميز العدو من الصديق. ويجب على أهل فلسطين الذين طالما تعرضوا للخداع والتضليل من قادة وزعماء كثر أن يحذروا أكثر من غيرهم من حكام تركيا الذين يخطبون ودهم لغاية في نفس أمريكا. وإن ظن البعض أن حكام تركيا أعداء لإسرائيل فليأت بضرر حقيقي واحد تسببت به تركيا "لإسرائيل"، في ظل هؤلاء الحكام، مع العلم أنّ تركيا قادرة على محو "إسرائيل" عن خارطة العالم في جولة واحدة لو قادها حكام مخلصون يبتغون وجه الله.