Maqal131222

 

عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وتحول العالم إلى معسكرين؛ شرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي وغربي بقيادة الولايات المتحدة، بدأت الحرب الثقافية بين المبدأين الرأسمالي والاشتراكي تستعر واتخذت الحرب أساليب متنوعة من أخطرها وأكثرها فتكاً صناعة وسط ثقافي عميل من جسم المنافس لضربه من الداخل وهو ما يمكن أن يطلق عليه: قطع الشجرة بغصن منها...ولو كان غصنا يابسا منفصلا عن الجذور.
والجهة التي تصدرت لتنفيذ هذه السياسة كانت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA التي أنشئت بقرار الأمن القومي الصادر في يوليو 1947م وقد بدأت العمل على مواجهة الاشتراكية بأساليب سياسية وثقافية مختلفة، وخلال بداية العمل توصل دهاقنة السياسة الأمريكية ومهندسو سياسة الغزو الثقافي والقائمون على الوكالة أن الهجوم الرأسمالي العلني على الاشتراكية والشيوعية غير مجدٍ بل في كثير من الأحيان تكون نتائجه عكسية للنفور الموجود من المبدأ الرأسمالي الذي يتميز بالجشع وتكديس الثروة واستعباد الشعوب وغيرها من الأسباب التي كانت سبباً في نشأة الاشتراكية للتصدي للمبدأ الرأسمالي.
وبدأت وكالة المخابرات المركزية تعمل على تنفيذ سياسة قطع الشجرة بغصن منها وهدم المبدأ بمعول أبنائه، فكان البحث عن مثقفين وكتاب وسياسيين ومؤثرين معارضين للنظام السوفيتي لما فيه من دكتاتورية وفساد وظلم وحكم بالحديد والنار...ولا بأس بأن يكونوا ذوي ميول اشتراكية أو شيوعية، ووجدوا ضالتهم في اليسار غير الشيوعي، يقول شليزنجلر أحد مهندسي هذه السياسة "هل هنالك من هو أفضل من الشيوعيين السابقين لمكافحة الشيوعية"، ويقول" يجب تقوية اليسار غير الشيوعي ليكون الراية التي تتجمع خلفها الجماعات التي تناضل للحصول على الحرية "، ويضيف "كنا نشعر أن الاشتراكية الديمقراطية هي الحصن المنيع ضد الشمولية".
وبعد جهد وتنظيم تم إنشاء جيش من المثقفين لتنفيذ عملية التدمير الذاتي ومن الداخل، وكان من نتائج تلك السياسة طباعة الكتاب الشهير الذي أشرفت وكالة CIA على طباعته ونشره في كل أوروبا وهو كتاب -الإله الذي فشل- وهو عبارة عن مجموعة مقالات لكتاب كانوا محسوبين ذات يوم على الاشتراكية وتشهد المقالات على سقوط الفكرة الشيوعية، واللافت أن مقدمته كانت "ليس لدينا أدنى اهتمام بتضخيم الدعاية المضادة للشيوعية" إلا أن الكتاب في حقيقته يريد تحقيق الهدف الذي تنصل منه في المقدمة!
ويقول كتاب من الذي دفع للزمار الحرب الباردة الثقافية "تم تدوير أولئك الذين كانوا يقومون بالدعاية للسوفييت سابقاً وتم غسيلهم من بقع الشيوعية واحتضانهم من قبل مخططي الحكومة الأمريكية الذين وجدوا في تحولهم فرصة لا تقاوم لتحطيم آلة الدعاية السوفيتية التي كانوا يزودونها بالزيت ذات يوم، وأصبحت جماعة (الإله الذي فشل) ماركة مسجلة تستخدمها وكالة سي أي ايه وترمز إلى ما كان يطلق عليه جماعة المثقفين الذين تحرروا من الوهم والذين يمكن أن يتحرروا والذين لم يتخذوا موقفا بعد والذين يمكن أن يؤثر أقرانهم على خياراتهم".
الموضوع طويل وتفصيلاته كثيرة في الكتاب المذكور خاصة فصل الإعلام الديمقراطي الذي يبين بداية تكوين الوسط الثقافي العميل للغرب في الإتحاد السوفيتي.
في النتيجة تم تحقيق الهدف، وهو سقوط المبدأ الاشتراكي والإتحاد السوفيتي دون إطلاق صاروخ واحد، وكان للجيش الثقافي الذي أنشأه الغرب مساهمة جيدة في ذلك السقوط والكثير منهم كان ينتمي للمبدأ ذات يوم ويحمل شعاره ويريد له الإصلاح لا السقوط، وفي النهاية وجدوا أنفسهم جنودا مخلصين للرأسمالية وأدوات في أيدي مخابرات الولايات المتحدة والغرب، ومن لم يعش طويلاً ليشاهد لحظة سقوط جدار برلين تسلم تلاميذه حطام دولة وحضارة وعمالة للغرب!
وهذا الأسلوب، الذي حقق نجاحا كبيرا في إضعاف الإتحاد السوفيتي وضرب المبدأ الاشتراكي ومنه الشيوعي، احتفظت به الولايات المتحدة لمهاجمة مبدأ الإسلام، حيث الواقع متشابه من حيث الصراع المبدئي رغم أن المبدأ الشيوعي هو مبدأ ساقط عقلاً وفطرةً وتطبيقاً على عكس مبدأ الإسلام الذي هو من عند خالق البشر العالم بما يصلح حالهم وينظم عيشهم ويعالج مشاكلهم.
وكانت ساحة الصراع هذه المرة في بلاد المسلمين، ولكن الذي يختلف عن السابق أن الاشتراكية كانت ممثلة بدولة لها سيادة وقوة ورقابة، فكان العمل المخابراتي والتجسسي فيها شديد الصعوبة والسرية ومعقدا وخطيرا، ولكن في بلاد المسلمين فهو سهل ميسور حيث يوجد أنظمة عميلة تفتح الأبواب على مصراعيها للغرب ومؤسساته وجمعياته الهادفة لإيجاد جيش ثقافي يهاجم الإسلام بشكل واضح وصريح أو مبطن وخفي عن قصد وبغير قصد، والاختلاف الآخر أن الولايات المتحدة أرادت إسقاط الإتحاد السوفيتي بإسقاط المبدأ، ولكن الإسلام لا توجد له دولة حالياً وإنما يوجد عمل منظم يريد إعادته إلى واقع الحياة! فلا بد من ضرب فكرة عودته إلى واقع الحياة بضرب فكرة أن الإسلام نظام حياة صالح لكل زمان ومكان وقادر على العودة وقيادة البشرية وأنه هو المنقذ الحضاري الوحيد للبشرية من النظام الرأسمالي... وهذا لا يكون بالهجوم المباشر من الغرب على الإسلام لأنه مدعاة للتمسك بالإسلام وفشل الضربة الثقافية للمسلمين فلا بد من جهة تنتمي للأمة وفيها نَفَس المعارضة والضجر من الأنظمة الموجودة وتريد التغيير.
وهذا يتوفر في طبقة من المثقفين والكتاب والسياسيين والمؤثرين، ولا بأس أن تكون لديهم ميول إسلامية بل يفضل ذلك لتكون الضربة محكمة وقوية، وكلما استشعر الغرب خطر قيام الدولة في ظل وجود حزب مبدئي ضرب جذوره عميقاً في الأمة ويواصل عمله بلا كلل ولا ملل لاستلام الحكم رغم كثرة العوائق، وتركز هذا الهجوم خاصة في الآونة الأخيرة على ضرب فكرة الخلافة والدولة والوحدة الجغرافية والسياسية وحمل الرسالة والجهاد وتطبيق الإسلام كاملاً كما طبقه الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده، وضرب فكرة أن الإسلام منهاج حياة كامل وشامل ويصلح لكل زمان ومكان، وفي المقابل تقبل فكرة الديمقراطية أو الإسلام الديمقراطي -كما استخدموا مسمى الاشتراكية الديمقراطية لضرب الاشتراكية المبدئية والترويج للرأسمالية بمسمى خداع- وتقبل واقع الدول القطرية والأنظمة البرلمانية، ويتم تنظيم وبث تلك الأفكار بعمل خفي ومنظم وممول يجهله حتى بعض أفراد تلك الدعاية من شيوخ ودكاترة وكتاب، فيظنون أنهم يعملون للإصلاح ويرددون كثيراً نحن لا نهاجم الإسلام أو نقصد الإساءة له ولكن نتحدث بالمنطق والواقع والمتوفر والأفضل والمناسب...وهم في صلب الهجمة على الإسلام كنظام حياة وبيدق في يد الغرب ومخابراته!
وهكذا ظهرت حركات وأحزاب علمانية ووطنية، وهكذا ظهر شيوخ ودعاة يتحدثون عن المهدي ويثبطون الأمة، وعلماء ومفكرون يخلطون الحابل بالنابل كما في برامج قناة الجزيرة فيجعلون الخلافة أمرا خياليا يصعب تطبيقه أو نظاما عفى عليه الزمن وأن الإسلام السياسي فشل لأنه يفتقد للحداثة والتطوير، وأن الحركات الإسلامية فشلت في إدارة الدولة... ويتجاهلون عن قصد وعمد من كان واضحا في فكرته وغايته وطريقته، ومن فصّل أنظمة الحكم وأجهزته ووضح النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتعليم والصحة والسياسة الخارجية والتصنيع وكيفية تطبيق تلك الأنظمة وإدارة الدولة وَوضَع الدستور وسطره بمواده وتفصيلاته، ومن بَيّن سبب فشل الحركات الأخرى وشخصه تشخيصاً دقيقاً كي لا ينسب للإسلام ويعمم على الجميع!
ولكن هذا الهجوم يدل على أن الغرب يتحسس قرب قيام الدولة وتنامي الرأي العام المطالب بالخلافة وخطورة حزب -لا يحب الإعلام ذكر حتى اسمه أو استضافة أحد من شبابه- يسعى للوصول إلى الحكم بقوة وصلابة لا تلين ولا تقبل الحرف وتغيير الطريق، وكلما شعر الغرب بخطورة أكبر سوف يحرك هذا الجيش الثقافي لمهاجمة فكرة الخلافة وتطبيق الإسلام ووحدة الأمة، إما بحركة منظمة ومبرمجة لأحزاب ووسط سياسي أنشأه في السفارات والقنصليات وأقبية المخابرات ووضع له المنهج والطريق وكيفية التحرك وتوقيته، كما حصل في الربيع العربي لقطف تضحيات الناس ومنع سقوط الأنظمة الحاكمة، أو باستثارة الإعلام لأفراد مهزومين استسلموا للغرب واطروحاته الثقافية المشوهة أو أفراد طغى عليهم الخبث والمكر لنظام الخلافة وغيرها من الأشكال الثقافية الحزبية أو الفردية التي لا تخرج عن العمالة المنظمة أو الجهل القاتل الذي يستثمره الغرب وعملاؤه....وذروة هذا الهجوم الثقافي هي مهاجمة فكرة الخلافة من أحزاب وجماعات كانت يوماً تدعي أنها من أنصارها أو ليست معارضة لها، ومن دعاة بارزين كانوا يوماً من المدافعين عنها أو المنظرين لها ولو سرداً وتاريخاً، وكُتّاب وكُتب وبرامج تهاجم الفكرة مضموناً أو وقتاً وزماناً، والجميع يقدم بمقدمة "ليس لدينا أدنى اهتمام بتضخيم الدعاية المضادة للإسلام والدين"، على سياق مقدمة كتاب (الإله الذي فشل)!

د. إبراهيم التميمي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة فلسطين