عندما تكون الحرب حرب أزرار وكأن من يخوضها يلعب لعبة على الكمبيوتر، هنا تظهر قدرة الكيان على التدمير والقصف وإيقاع القتلى بأعداد هائلة، ويظهر الفارق في التكنولوجيا والصناعة، وتبقى قدرته على اختراق الدول محل سؤال، أهي فعلا قدراته الفاعلة أم هشاشة الجهات التي نجح في اختراقها، ذلك أنه مهما نفخ قدراته في التجسس والاختراق، يبقى السابع من أكتوبر وفشله المعلوماتي يطرحه أرضا كلما نهض متبجحا بذاك التفوق المزعوم، ويصبح ما هو أقرب للواقع هو أنها هالة صنعت حوله كهالة جيشه الذي لا يهزمّ!
أما على الأرض -وهو الأهم- وعندما يصبح العنصر البشري هو العنصر الحاسم، والفارق في العنصر البشري هو الذي يحدد اتجاه المعركة، عندها تميل الكفة لغير صالحه بشكل غير قابل للموازنة.
ذلك أن عماد حرب الأزرار هي التكنولوجيا والتفوق الصناعي، وهو التفوق الذي يدعي الكيان أنه من صنعته وقدرته وعقليته، في الوقت الذي يبدأ حالة من البكاء إن انقطعت عنه شحنة من سلاح، أو حالة من التسول في حال عجزت قدرته عن بلوغ هدفه الذي يرجوه، كما حصل في طلبه من أمريكا أن تتمم المهمة في إيران والتي تعجز قدراته عن إتمامها.
وفي الجانب الآخر فإن عماد حرب الواقع والأرض والمواجهة بين الجنود هو العقيدة والقيم التي يحملها طرفا المعركة.
المواجهات التاريخية تخبر (والتاريخ هنا هو التاريخ القريب) أن الغرب وأمريكا والكيان كانوا دائما قادرين على التدمير، ولكنهم كانوا دائما فاشلين في الميدان على المستوى البشري، وليس هذا في غزة وحدها، بل كان في أفغانستان والعراق مع القوة الأولى في العالم، بل وقد تعدى العالم الإسلامي إلى غيره في مثال فيتنام.
لكن يمكن أن تكون المعادلة اليوم في غزة مختلفة، فهناك اختبار حقيقي عندما تواجه الطائرات والدبابات والحصار والجوع والقتل والأشلاء على أرض شبه محروقة، وبعد أن يظن الكيان أنه قام بكل ما من شأنه أن ينظف الأرض من أهلها ومن أي تهديد له، ثم يجد أنه يقف عند الحالة نفسها، نفس المشهد يوم السابع من أكتوبر: جنوده وهم يقتلون في دباباتهم دون أن يتحركوا، وعندما يقوم فرد بتسلق الدبابة -على ما فيها من سلاح وعلى ما فيها من جنود- ثم يضع قنبلته داخل الدبابة وحولها ما حولها من حماية جوية وبرية واستطلاعية، في صورة ترسم ملامح الشجاعة الخاصة لمقاتل لا يمكن أن يكون عماده إلا الإيمان والتوكل على الله ، وفي مقابله جندي معه كل أسباب كسب المعركة إلا أن يكون صالحا للقتال، لا تستغرب بعدها أن يصرح الضباط أن ما حدث هو مشهد مخز، لكن صاحب التصريح لو كان مكانه لا أظن أنه سيكون أقل خزيا من جنوده
وللمتأمل فإن أي معركة على الأرض لا يمكن ان تحسمها طائرة ولا صاروخ، اللهم إلا إن كانت إبادة فعلية كالقنابل النووية، وحينها لن يطأ الأرض لا قاتل ولا مقتول لأنها أصبحت مكانا لا يصلح للبشر، وفيما عدا ذلك لا يمكن أن يحسم السيطرة على الأرض إلا الجندي، وإن كان الكيان لا يملك هذا الجندي ولا يملك أن يكون شجاعا حتى في ملجئه، فهل يمكن للكيان بعد ذلك أن يبقى موجودا مع نشوب أي معركة حقيقية على الأرض؟
ربما هذا ما حذر منه رئيس وزراء الكيان السابق باراك عندما استشرف السابع من أكتوبر، والسيناريو المرعب عنده: ماذا لو كان السابع من أكتوبر نموذجا مصغرا عن هجوم متعدد الجبهات؟ من وجهة نظره لم يكن هناك أي احتمالات للصمود، بل هو السيناريو المرعب، وفي هذا السياق، وإن كنا نتكلم عن معركة على الأرض، فإن التكوين العقدي الموجود في مجاهدي غزة موجود كذلك في الأمة، بل وموجود في جنودها، وإن كان حسم المعركة، التي هي معركة التحرير، وهي معركة على الأرض يتقابل فيها الجندي المسلم الذي يحرص على الموت حرص اليهود على الحياة وهم أحرص الناس عليها، وإن كانت المعادلة مكتوبة بهذا الشكل، فالمعركة إذن محسومة ومعروفة النتائج حتى قبل وقوعها ، وكل من في المنطقة يعرف النتيجة حتى اليهود أنفسهم، ولكن هم لا يعرفون متى يتخذ القرار بتنفيذها، وسبب ذلك أنهم يعلمون أن الأمة جاهزة وجندها جاهزون، وما تدمير قدرات سوريا وتحطيم السلاح المحطم فيها، وما الحديث المتكرر عن خطر الجيش المصري إلا تعبيرا عن نظرة الكيان لقدوم المعركة.
أما الجهات المحلية، وأقصد بها الأنظمة، فبعد أن كانت لسنوات تعد بهذه المعركة، إلا أنها ذات في الوقت كانت تهيء الناس بفكرة أن هذا الكيان قوة لا تقهر وجيش لا يهزم، حتى يبرروا للناس قعودهم عن خوض تلك المعركة، ثم لما كشفت سوأتهم يوم السابع من أكتوبر وتساقط تضليلهم بقوة الكيان، بدأوا يتكلمون عمن وراء الكيان من أمريكا وغيرها، مع إبراز دعوات الوطنية، والخشية الكاذبة من دمار "الأوطان"، وهم في نفس الوقت يعلمون أن الأمة لا تعبأ لا بقوة الكيان ولا حتى بغضب أمريكا، ولا حتى بسلامة "الأوطان" أمام معركة التحرير ونصرة الإخوان، بل وصاروا يأملون في أن يكون في بطش الكيان وقوته العسكرية والتجويع والتقتيل ما يخيف الأمة، ويذهب صورة ضعف الكيان من الأذهان ويبقي صورة عقوبة التمرد والعصيان، ولكن الحقيقة أن المعركة قادمة، وأن الأمة قادة عليها، أصبحت محفورة في جباه الأمة بل في قلوبها، وإن مسها غبار تيه العدو بطائراته وتدميره، وسرعان ما أزال الغبار و أعاد معالم المكتوب في القلوب مشهد غزة ، ذلك المشهد الذي يرجع في ذهن الأمة فكرة واحدة: أن المعركة مؤجلة، وأن تأجيلها فاق المتوقع، لكن ولأن الكيان لا يعلم توقيتها، ولأنه يعول على الأنظمة في دفعها عنه، فإن ذلك نفسه ما سيؤدي قطعا إلى طوفان في الأمة التي حبست وراء سد الأنظمة، ذلك السد الذي يزداد دفع الأمة له مع الوقت، والذي يؤذن بأنه سيكون طوفانا عظيما كلما علا ماء الغضب المكبوت وراءه، وقد غدا الكيان والأنظمة والغرب ينتظرون ذلك الطوفان ولا يعرفون توقيته كأنما ينتظرون القيامة، حتى وإن بدا في الأمة بعض اليأس من إمكانية حصوله، فلربما تجد يائسا بعد أيام هو نفسه من يهدر صوته وسلاحه في ذلك الطوفان القادم،
إن المعركة محسومة ولا ريب، وذلك حين تدق ساعة الصفر التي تستعيد فيها الامة تشكيل المشهد مرة أخرى، ويبقى أن ذلك التوقيت لا يؤقت له البشر، ولكنه بقدر من يقدر الأمور بمقداره، وكل شيء عنده بمقدار.
أحمد عبد الحي
26/06/2025