فيما يلي مقالاً بعنوان (لماذا تقمع السلطة الفلسطينية فعاليات حزب التحرير؟) للكاتب د. أسامة عثمان وهو كاتب فلسطيني، نشر على صفحات موقع القدس العربي ومواقع إليكترونية أخرى، نورده كما هو من مصدره.
 
في الضفة الغربية المحتلة، والعديمة السيادة، تُواجَه نشاطاتُ حزب التحرير من قبل السلطة الفلسطينية بمزيد من التضييق، حتى المنع المطلق لأي نشاط، جماهيري، سياسي، أو ثقافي، وعلى معظم المستويات. وفي بيروت البالغة الحيوية والتأثير، في محيطنا العربي، يحظى الحزب بترخيص قانوني، ويجد الجو المناسب للتجيهز لمؤتمر عالمي مفتوح، بمناسبة الذكرى التاسعة والثمانين للقضاء على الخلافة الإسلامية.
 
ومن الواضح أن السلطة الفلسطينية- في موقفها من حزب التحرير- تبدو أكثر ميلا إلى موقف معظم الدول العربية التي تحظره، كالأردن، وسوريا، ومصر، وغيرها، منها إلى موقف السامحين له، كلبنان, والسودان، وكان لبنان وافق على الترخيص له، عندما وقَّع وزير الداخلية أحمد فتفت، في عهد الحكومة الأولى للرئيس فؤاد السنيورة، على الترخيص، دون أن يستجيب لزوبعة الاعتراضات التي أثيرت ضد الحزب؛ لأنه لا يعترف بالدستور اللبناني, ومنذ ذلك التاريخ صار الحزب أكثر ارتياحا في تنظيم نشاطاته وفعالياته المحلية، وفي هذا الإطار جاءت استعدادات الحزب لعقد مؤتمر عالمي فريد في الثامن عشر من تموز/ يوليو، الجاري، في ذكرى هدم الخلافة، يتناول فيه عددا من القضايا الساخنة الإقليمية والدولية؛ والسؤال: كيف تسمح دولة كلبنان يعقد مؤتمر بهذا المستوى، في قلب عاصمتها، غير البعيدة عن عواصم عربية تحظر الحزب، وترى فيه تهديدا, ولا تسمح السلطة الفلسطينية غير المرتقية إلى مصافِّ الدول، وغير المتخلصة من مظاهر الاحتلال بعقد أي نشاط له، ولو في بلدة نائية؟
علاقة الحزب بالسلطة.. تحوُّلٌ، وصراع
 
كان حزب التحرير قد استأنف نشاطه الثقافي، والدعوي في فلسطين المحتلة في بداية الثمانينات من القرن الفائت، ولم يكن - بسبب تجنبه لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي- يتعرض لأية ملاحقات منه ، ولم تتخذ علاقة الحزب بالسلطة الفلسطينية شكل الصدام، منذ تسلمت الأخيرة مهامها في مدن الضفة الغربية وغزة، ولكن الأمر بدأ ينحو منحى جديدا منذ انخرطت السلطة في المشروع الأمريكي، وبات للجنرال كيث دايتون السيطرة على أجهزتها الأمنية، ووقع أبرز حادث صدام عندما نظَّم حزب التحرير مسيرات احتجاج على مؤتمر أنابوليس، في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2007م، حينها قتلت الأجهزة الأمنية في الخليل عضو الحزب: (هشام البرادعي).
 
كان الموقف قد اتخذ طابع التحدي بين السلطة الحساسة لموضوع هيبتها، وبين الحزب الذي أراد أن ينخرط انخراطا قويا لافتا، وسط تنافس شديد عرفته الأراضي الفلسطينية المحتلة بين حركتي فتح، وحماس، وبعد سيطرة حماس على قطاع غزة، وطرد السلطة منها.
 
بعد هذا التطور الذي كان له ما بعده، على صعيد القمع والملاحقة، تعالت أصوات نخب من المثقفين والكتاب، ومنهم من لم يكن بعيدا عن أوساط السلطة السياسية برفض مثل هذا التعاطي العنيف مع جماعة لا تنتهج العنف، ورأوا في سلوك السلطة الأمني أمرا صادما ومبالغا فيه، وقمعا للرأي، لا تخفف من بشاعته ذرائعُ السلطة ودفوعاتها.
 
والسؤال هنا: ما أسباب هذا التحول في شكل العلاقة بين السلطة والحزب الذي لا ينتهج غير النهج السياسي، والفكري؟
 
بالطبع لا يقتصر الأمر على مسألة الهيبة التي تؤرِّق السلطة؛ إذ في العمق تناقضٌ مبدئي بين الطرفين؛ فالسلطة لا تهتم بأطروحات الحزب الإسلامية، ولا تمتنع عن تنظيم نشاطات ترفيهية، وثقافية، علمانية الطابع، لا يقابلها الحزب إلا بالاستنكار، والتحريض. وقد لاقت المناهج التعليمية التي أقرتها السلطة استنكارا شديدا من الحزب الذي شن عليها حملة واسعة، عبر دروس المساجد، ومن خلال تنظيم الوفود إلى المدارس، وقد أصدر كُتيِّبا يبين فيه مواطن التعارض في تلك المقررات المدرسية مع الشريعة الإسلامية، وَفْق فهم الحزب.
 
هذا جانب من التعارض بين الحزب والسلطة، على المستوى الثقافي، ولكن التعارض الأكثر حساسية هو على المستوى السياسي؛ إذ يعتبر التحريريون السلطةَ باطلة من أساسها؛ لأنها أنشئت بموجب اتفاقات أوسلو الباطلة، ولهذا دعا حزب التحرير إلى مقاطعة كل الانتخابات التي دعت إليها السلطة. ولأنها سلطةٌ تحت حراب الاحتلال، ولا تنكر تنسيقها الأمني مع الاحتلال؛ فقد اشتد نكير الحزب عليها بسب ذلك.
 
ولا يخفى أن ذروة الاختلاف بين السلطة والحزب تتمثل في رؤية كلا الطرفي لحل الصراع على فلسطين، ففي الوقت الذي يرى الحزب فيه فلسطين أرض وقفٍ إسلامي، يحرم التنازل عن أي جزء منها، ويعتبر من يفعل ذلك مرتكبا للخيانة العظمى؛ فإن السلطة تنخرط في مشاريع الحلول التي تنتقص من معظم فلسطين.
 
ومع كل هذه النقاط من دواعي الصدام؛ فإنَّ ثمة أمرين كان ينبغي لهما أن يخففا من حدة المواجهة، الأمر الأول، ما أسلفت التذكير به، وهو أن الحزب يقتصر في وسائله، على السلميِّ منها، وهو بذلك، غيرُ مُعرَّض، لا للصدام العسكري مع السلطة، ولا للصدام مع قوات الاحتلال، والحزب لذلك لا يشكل تحديا أمنيا جديا للسلطة.
 
الأمر الثاني: أن الحزب لا يستهدف السلطة، ولا يرى فيها دولة ذات سيادة، أو سلطان ذاتي، يمكن أن يُبنى عليه نظام الخلافة، بعد أن تُقوَّض دولتُه، كما هي نظرته إلى معظم الأقطار الإسلامية والعربية. ولم تتغير نظرة الحزب إلى فلسطين، بعد نشوء السلطة؛ ولا يرى الحزب أن نظرته إليها ستتغير، حتى لو تحولت إلى «دولة فلسطينية». ومن هنا تفترق نشاطات حزب التحرير في فلسطين، عنها في معظم أماكن تواجده؛ فلا يخصص جزءا منها لاختراق الجيش، أو استمالة ضباط فيه، أو العمل على الإطاحة بالدولة، كما حاول في عدد من الدول، غير مرة، ومن هنا، أيضا، يفترق حزب التحرير عن حماس التي هي في المقام الأول حركة فلسطينية، تحدد نشاطها، وأهدافها في حدود فلسطين، وهي بالتالي تدخل في منافسة حقيقية، وأحيانا ضارية، مع السلطة، وحركة فتح، على النفاذ إلى المؤسسات الفلسطينية، الممتدة من الجامعات إلى النقابات، وحتى دوائر السلطة نفسها، بعد أن خاضت الانتخابات الأخيرة، وفازت بها فوزا كاسحا.
 
الأصداء العربية والإسلامية
نظرا للمكانة الأثيرة التي تحظى بها فلسطين، في قلوب كثير من العرب والمسلمين، ولتقدم الخبر فيها على سواه من أخبار المنطقة؛ فإن الحدث فيها يكتسب موقعا خاصا، ويترك أصداء مرتفعة، وحينما ترتفع حناجر الجموع الذين يقودهم حزب التحرير من جوار المسجد الأقصى تطالب بنصرة فلسطين، وتوجه النداء إلى الضباط والجنود بالتمرد على القيادات السياسية المتخاذلة؛ فإن من شأن ذلك أن يؤرق هذه النظم العربية المهتزة، أصلا، ويزيد من حراجة موقفها، ولا سيما في الأحداث الساخنة، كاعتداءات اليهود على المسجد الأقصى، أو ارتكابهم المجازر.
 
ومع كون الأمة الإسلامية والعربية تبدو أكثر تفاعلا مع الصوت القادم من فلسطين، وهو في مواجهة مباشرة، مع الاحتلال، ولا يتفاعل بنفس القدر مع أصوات تحاول استثمار الحدث، وهي تخوض صراعا، مع طرف « عربي، أو فلسطيني» إلا أن هذه التظاهرات والمسيرات لن تغدو صرخة في واد، ولن تقف عند حدود فلسطين، في وقت ينتشر فيه الحدث بسرعة البرق، ويتفاعل عبر كل المحافل، والوسائل الإعلامية، غير الخاضعة للسيطرة، أو للتوجيه.
 
البعد الدولي
لا يخفى على المراقب التداعياتِ الواضحة التي أعقبت أحداث (11-9)على النظرة إلى الحركات الإسلامية، ولا سيما تلك التي توصف بالراديكالية، والتي تحمل فكرا تصفه بعض الدوائر الأمريكية بالفكر التبريري لـ«الجماعات الإرهابية»، فعلى الرغم من كون هذا الحزب لا يتلبس بأعمال عنف، إلا أن أيديولوجيته المناهضة للديمقراطية تحمل في طياتها عداء جذريا للدول الغربية، ومشاريعها السياسية والثقافية.
 
البعد الإسرائيلي
ولا نستطيع أن نغفل الدور الإسرائيلي في تحديد خيارات السلطة تجاه حزب التحرير؛ إذ كان إنهاء التحريض مما اشترطته خارطة الطريق على السلطة الفلسطينية، وإنَّ إسرائيل، وإنْ كانت غضَّت الطرف عن حزب التحرير أيام احتلالها العسكري المباشر؛ إلا أنها قد لا تحتمل من السلطة موقفا كهذا، اليوم، فضلا عن كونها لن توفر فرصة كدعوات الحزب التي يجهر بها في أراضي السلطة؛ لاستئصال إسرائيل، لكي تَصِمَ السلطة بالتقصير، والتراخي؛ ليكون ذلك جزءا من الدعاية المستخدمة للتنصل من «الاستحقاقات» المترتبة عليها؛ بموجب خارطة الطريق، أيضا.
 
فهل يملأ حزب التحرير الفراغ؟
بعد أن خرج حزب التحرير إلى الساحة الفلسطينية بمسيرات، ومؤتمرات في مدن الخليل، ورام الله شارك فيها الآلاف انتاب كثيرا من المراقبين الغربيين، القلق أن يكون حزب التحرير هو القوة البديلة، لفتح، وحماس، أو التيار الثالث المنافس، وشاركهم هذا القلق محللون فلسطينيون، ومن داخل السلطة، وحركة فتح.
 
وكان فراغ سياسي قد تشكل في الأراضي الفلسطينية المحتلة ، بعد التراجع الذي عرفته حركة فتح، بسبب تماهيها مع السلطة، وتخليها عمليا، عن الكفاح المسلح، وبعد رحيل الرئيس ياسر عرفات، وبعد الفتور الذي اعترى التأييد لحركة حماس، بعد أن تورطت هي الأخرى في السلطة، وأصبحت خيارات المقاومة عندها تخضع لاعتبارات جديدة، فاكتسبت وضعا جديدا، في الوقت الراهن، على الأقل؛ فقد خسرت الحركتان، غير قليل من ثقة الفلسطينيين، بسبب ما تقدم، وبسبب الانقسام، وتبعاته المؤلمة، على القضية، والشعب في القطاع، والضفة.
 
بالرغم من النشاط الدعوي والإعلامي الملحوظ الذي اتسم بها الحزب في الفترة الأخيرة، في الضفة الغربية، وقطاع غزة، من خلال المؤتمرات، وأشهرها مؤتمرات سنوية في ذكرى الخلافة، والمسيرات التي كانت تأتي احتجاجا على وقائع سياسية، كالمفاوضات بين السلطة، وإسرائيل، أو دينية، مثل تصريحات بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر، أو غيرها؛ فإن الحزب لا يشهد تناميا جماهيريا يصل إلى حد تهديد القوى السياسية التقليدية في الضفة وغزة؛ إذ ما زال كثير من أبناء الشعب الفلسطيني يتردد، ولا يتحمس للخطاب السياسي الذي يدعو إليه الحزب، هذا على الصعيد الميداني المشاهد، وإن كان الكثير من الفلسطينيين، أيضا، لا يستنكرون دعوة الحزب إلى الخلافة الإسلامية، لكن قناعتهم بها لا تصل حد الانخراط الفعلي في صفوف الحزب، أو الاستجابة لنشاطاته الجماهيرية، ويكاد لا يشارك في تلك النشاطات غير أعضاء الحزب والمقربين منه.
 
والسبب الذي يعوق حزبَ التحرير عن ملء الفراغ، قد يعود إلى طبيعة طموحاته، ونطاق اهتماماته التي تتسع؛ لتشمل العالم الإسلامي كله، ولا تسلط الاهتمام على قضايا الفلسطينيين الخاصة، كما قد تعود إلى استبعاد الكثيرين لإمكانية تحقيق الهدف الذي يتجشمه حزب التحرير قريبا، وهو الخلافة التي لا يرى في أية حلول جزئية بديلا عنها. وقد يكون لطبيعة الحزب المبدئية الإسلامية الصارمة أثر في محدودية الالتفاف الجماهيري، ولا سيما في فئة الشباب، والطلاب الجامعي، حوله؛ إذ لا يعترف الحزب بالرابطة الوطنية، ولا يقبل بعقد أية صلات، أو تحالفات بينه، وبين فصائل العمل الوطني، ولا ينسى الكثيرون من المعنيين بالعمل النضالي للحزب اعتزاله العملَ المقاوم، ضد الاحتلال، منذ انطلقت الثورة، وحتى الآن.
 
وفي تقديرات الكثيرين أنه لو ترك حزب التحرير يمارس هذه النشاطات الموسمية، دون قمع، وصخب لكانت مرت، وهي أقل إضرارا بسمعة السلطة، وصورتها، ولكن يبدو أن الأبعاد الأخرى، وحساسية الوضع الذي تمر به السلطة، وحرصها البالغ على نفي أية دلائل على «الانفلات» أو «التراخي» يجعلها تبالغ في ردود الأفعال، وتسبق نظما أكثر منها استقرارا، وأقل منها تعرضا لمستفزات« السيادة» ومؤشرات الانتقاص، والإحراج.
 
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
* كاتب فلسطيني.
المصدر: القدس العربي