الاعتدال في زمن الثورات!!

د. مصعب أبو عرقوب/

عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين

"الاعتدال كلمة يحب عملاء الاستعمار استخدامها، فالمعتدلون هم كل أولئك الخائفين أو الذين يفكرون في الخيانة بشكل من الأشكال، أما الشعب فليس معتدلا على الإطلاق".

قد يكون ذلك الوصف للمعتدلين الذي توصل له جيفارا عبر تجربته الثورية في الوصول إلى الحكم موضوعيا في ظل الربيع العربي، فالطريق للسلطة وسدة الحكم شاقة عسيرة، مليئة بالمغريات.. تحفها المخاطر والمؤامرات، تكشف عن معادن الرجال والحركات، فإما أن يثبت "الثوري" على مبادئه فيُوصف بالإرهابي الرجعي ... أو يتنازل عنها فيصل للحكم سريعا، وينضم إلى جوقة الأنظمة المعتدلة !!.

والثورات في ربيعنا لم تكن إلا على أنظمة معتدلة، فالنظام التونسي شكل نموذجا للاعتدال "العربي" في اتباع سياسية "تجفيف المنابع"، منابع ثقافة الأمة واتصالها بهويتها العقدية، ومبارك المخلوع كان عراب الاعتدال وزعيمه عبر تاريخه المتخم بطقوس الاعتدال.. مرت عبر مشاركته في حرب الخليج وحصاره لغزة وإمداده الغاز "لإسرائيل" على حساب شعبه ... والقذافي باع وطنه وشحن أسلحته بطائرات للغرب ليلحق بركب المعتدلين متخليا عن شعاراته الكاذبة.

شعارات لم تسعف النظام السوري المعتدل وإن تستر بممانعة كاذبة خاطئة،لم تسفر يوما عن استعادة أرض أو تهديد عدو محتل، حتى غدا انهيار النظام أمام الثورة "تهديدا وجوديا لإسرائيل وأمنها"!!، وقد شكل سلوك الأنظمة العربية نموذجا صارخا لعملاء الاستعمار أو "للمعتدلين"، الذين باعوا البلاد وأراقوا دماء العباد على مذبح مصطلحات مضللة كالاستقرار والديمقراطية والحفاظ على موازين القوى وعلمانية الدولة والانفتاح على الأخر، والمعاهدات الدولية والالتزامات الأممية والقوانين الدولية ومحاربة الإرهاب والتطرف.

مصطلحات يختبئ المعتدلون وراءها، فهي بضاعتهم الرائجة التي أخفت وراءها تبعية للمستعمر، وترسيخا لوجوده على أرضنا، واستماتة في تنفيذ خططه للمحافظة على مصالحه في عالمنا العربي والإسلامي، والحيلولة دون نهضة الأمة ووحدتها، وهي ذات المصطلحات التي يطرحها بعض "المعتدلين في زمن الثورات"، إما  لتبرير تنازلاتهم المبدئية في طريقهم للوصول إلى سدة الحكم أو لشرعنة عودة الأنظمة السابقة بلباس جديد.

فلم تخل الساحة في الربيع العربي من معتدلين من فلول الانظمة المتهاوية مردوا على الاعتدال، من وزارء سابقين وأعوان وبلاطجة يتقافزون عبر المنابر الإعلامية والأروقة السياسية والسفارات الأجنبية والعواصم الغربية لامتطاء ثورات الشعوب وتركيعها تارة، ومطالبة غيرهم بالاعتدال تارة أخرى للحفاظ على مصالحهم الشخصية ومصالح أسيادهم المستعمرين التي باتت مهددة بثورة الشعوب وسعيها للتحرر واستعادة السيادة والأرض وتشوقها للانعتاق من التبعية للغرب.

سعي جدي  للتحرر وشوق للانعتاق من التبعية والتشرذم لم تتلقفه بعض الحركات التي أوصلتها الأمة عبر صناديق الاقتراع إلى مكان متقدم في السلطة، فانطلقت كالسهم باتجاه الاعتدال، فأعلن حزب النور في مصر التزامه بالاتفاقيات الموقعة مع "إسرائيل"، وتراجعت حركة النهضة عن تطبيق الشريعة وتحالفت مع قوى تخالفها على الأقل نظريا في الفكر والتصورات، دون أن تكلف تلك الحركات نفسها عناء الالتفات إلى مصير الأنظمة المعتدلة التي أطاحت بها الشعوب التي أنتخبتها من دون غيرها وهي التي كانت توصف بالتطرف والإرهاب!!

 فالشعوب "ليست معتدلة على الإطلاق"، فقد انتخبت بأغلبية كاسحة من وصفوا دوما بالتطرف والإرهاب، وإن بدأت تلك الحركات بالتخلي عن مبادئها ونزعت للاعتدال في سبيل تأمين وصول للحكم بيسر وسلاسة، فإنها ستشهد سقوطا مريعا، فالشعوب ثارت على أنظمة عميلة للاستعمار تحت ستار الاعتدال، وعبر سنوات من عمل المخلصين لأمتهم أصبحت تميز وبجدارة بين الاعتدال كخيانة وبين التحرر والانعتاق والوحدة في كيان واحد كخيار وحيد لنهضتها وتحررها، وباتت تملك من المقاييس ما يعينها على التمييز وبسهولة بين المعتدلين والمخلصين.

فحدود سايس بيكو ومعاهدة كامب ديفيد والقدس والأرض المباركة، وتطبيق الشريعة، ومحاربة الفساد ومحاكمة الطغاة، وتحرير البلاد، وتوزيع الثروات والعلاقة مع ما تبقى من الأنظمة العميلة للغرب، والعلاقة مع الغرب، ومناهج التعليم، والسيادة على الأرض وفي السماء، كلها اختبارات بسيطة تجريها الشعوب، ليفشل فيها كل المعتدلين أو من يفكرون في ..الخيانة .

اختبارات لن ينجح فيها إلا من يحمل مشروعا نهضويا ينبع من ثقافة الأمة وعقيدتها، من يحمل مشروعا يتجسد في دولة الخلافة التى تعبر عن طراز مختلف في الحكم والإدارة، يوجد الأمة ويفعل طاقات أبنائها ويعيد ثرواتها وأرضها، ويقدم للعالم نموذجا حضاريا للعدل والقيم الروحية والإنسانية، متجلية في تطبيق الإسلام كمبدأ ونظام حياة أمام وحشية المادية الرأسمالية التي أوردت الإنسانية المهالك.

وإلى أن تُفَعِل الأمة مشروعها الحضاري سيسقط كل المعتدلين على الطريق وستستمر الشعوب في ثورتها، فالسلطان للأمة ... والأمة ليست معتدلة على الإطلاق.!!.

16-1-2012