مشروع السلطتين الفلسطينيتين 5

 الجعجعة الفصائلية والحراك السياسي الكاذب

الدكتور ماهر الجعبري

بعد تمكّن اللاعبين الجدد من السيطرة على غزة في عملية دموية، ورغم كل محاولات تليين الحدة الفصائلية، ورغم مباشرة ترويض حماس عبر الحرب والحصار خلال العام 2008، وذلك من أجل التقارب مع نهج فتح في قبول التصريح الصريح بالاعتراف "بإسرائيل"، استمرت حالة الانشطار السلطوي وتصاعدت لهجات الردح الإعلامي بين الطرفين، وظلت سلطة رام الله تُصعّد من عمليات القمع والتنكيل، فيما سيطرت أجواء الحوار الوطني الفارغ والحراك السياسي الكاذب على الساحة الفلسطينية.

أما المشهد "الإسرائيلي"، فكان على النقيض من توجهات الترويض وتحريك المفاوضات وما يجري من حوارات وتوافق، وكان الرأي العام "الإسرائيلي" يتجه نحو مزيد من التطرف، ولذلك وفّرت الانتخابات "الإسرائيلية" الفرصة لعودة نتنياهو من الليكود لرئاسة الحكومة، وهو الذي كان –خلال رئاسته السابقة لحكومة "إسرائيل" مع نهاية عقد التسعينات- قد عرقل جهود كلينتون لتمرير الحل الأمريكي.

وشكّل نتنياهو حكومة "إسرائيلية" أكثر تطرفا بالشراكة مع ليبرمان المتغطرس من حزب "إسرائيل بيتنا"، واتخذت طابع حكومة الحرب لا حكومة سلام، وصعّدت نشاطات الاستيطان في الضفة الغربية مع سبق الإصرار، وظلت تمرّغ أنوف القيادات الفلسطينية بالتراب، وظلت تتمرد على كل محاولة أمريكية لدفعها نحو الانخراط الجاد في العملية السلمية، وتمترست خلف منطق الحراك السلمي الكاذب، فيما كانت بالطبع تحمل الرؤية الليكودية لمشروع الحكم الذاتي الذي لا يرقى لشكل الدولة، ولو بالاسم دون الرسم. ومارست الوقاحة ضد الأنظمة العربية عندما تحدث وزير خارجيتها عن حاكم مصر البائد بالقول "فليذهب إلى الجحيم".

وبعد انتهاء الحرب "الإسرائيلية" الشرسة على غزة (1/2009)، انطلقت جلسات الحوار الوطني في القاهرة، مع ارتفاع نبرة الحديث عن الحلول السياسية لدى الفصائل الفلسطينية. ثم أخذ الحوار يفرّع ملفات عديدة، شملت المنظمة، والأجهزة الأمنية والمعتقلين، والانتخابات والحكومة. وتم تشكيل لجان لمتابعة تلك الملفات.

وفي ذلك السياق تصاعد الجدل الفصيلي والسياسي بين الفصائل الوطنية حول "قدسية منظمة التحرير الفلسطينية": إذ حاولت حركة حماس –في البداية- الدفع لإيجاد مرجعية بديلة عن منظمة التحرير الفلسطينية (المصفّاة أمريكيا)، في موقف تناغم طبيعيا مع التوجهات الأوروبية، التي سعت إلى إعادة الدخول لمسرح القضية عبر تسخير اللاعبين الجدد تحت شعار "الإسلام"، وذلك بعدما تم تنحية رجالات أوروبا وتنخيلهم من فتح. وفي المقابل، ظلّّت رجالات السلطة (المنخّلة أمريكيا) تصرّ على أن تبقى المنظمة هي الإطار الجامع للقضية الفلسطينية، في موقف يجسد المصلحة الأمريكية، التي كانت قد أوجدت منظمة التحرير ورعتها من المهد، عبر الحكام الذين كانوا في دائرة نفوذها، وعلى رأسهم جمال عبد الناصر.

وبفعل التجاذبات السياسية والتأثيرات الإقليمية والدولية، تحول الحديث الفصيلي عن إصلاح المنظمة إلى إشراك حركتي حماس والجهاد الإسلامي فيها. وبكل أسف، لم ترفض حركتا المقاومة (الإسلامية) فكرة الدخول في المنظمة مبدئيا، من باب أن دور المنظمة ترسّخ كمظلة تفاوض، بل بدأتا تتحدثان عن الدخول فيها وإصلاحها.

وبالطبع غاب عن وعي المتابعين من أتباع الحركتين أن الذي يتكتّل ويتأطّر لأجل المقاومة والكفاح المسلّح لا يحتاج إلى تمثيل من أي جهة، وأن التمثيل لا يحتاجه إلّا المفاوض، وأن الحديث عن ترتيب بيت المنظمة هو حديث عن ترتيب مرجعية سياسية للمفاوضات، لا عن تنسيق إطار عسكري للجهاد! ولذلك فالحديث عن ترتيب المنظمة هو سباحة مع التيار الأمريكي.

وتزامن تصاعد الحديث والموقف حول منظمة التحرير مع تبلور "شكلي" لمحورين عربيين رسميين، صار يطلق عليهما: محور الممانعة ومحور الاعتدال، مما كشف عن تجاذبات عربية في سياق تنافس الأطراف الدولية على وضع بصماتها على تحركات الفصائل وعلى تشكيل مستقبلها.

ومن أجل تحفيز الحوار الوطني، كان لا بد من جزرة التمويل بعد عصا الحرب، فاجتمع ممثلو ثمانين دولة في شرم الشيخ "لإعمار غزة" في آذار 2009، وربط المؤتمرُ التمويلَ بتحريك الجهود للوصول إلى تسوية سلمية، وحدد شروطه في التهدئة، وتحقيق المصالحة، وتشكيل حكومة وفاق وطني، كما لخصها الرئيس المصري المخلوع مبارك في كلمته في المؤتمر.  ومن الجهة الفلسطينية، أكّد رئيس وزراء السلطة سلام فياض أن "إعادة الإعمار لا تزال مرتبطة بإبرام اتفاق دائم للتهدئة"، فيما دعا رئيس السلطة محمود عباس إلى الالتزام بحل الدولتين والاتفاقيات الموقعة، وطالب بضرورة التحرك السريع من قبل الإدارة الأمريكية لإحياء عملية السلام (شرم الشيخ: إعمار غزة يجب أن يترافق مع حل سياسي).

وهكذا أحكم مؤتمر شرم الشيخ الربط بين إعادة الإعمار وبين ترويض حكومة حماس وتركيع أهل فلسطين للقبول باعتراف صريح "بإسرائيل" ضمن المشروع الأمريكي لحل الدولتين. وشعرت حكومة حماس أن مؤتمر شرم الشيخ قد تخطّاها، وأنه رجّح كفة سلطة عباس في التنافس السلطوي، فاعتبرت المؤتمر "توظيفـًا سياسيـًا للضغط على حركة حماس وابتزاز المواقف منها، وذلك من قبل بعض المشاركين وعلى رأسهم الإدارة الأمريكية"، كما نصّ بيانها في حينه (حماس تهاجم مؤتمر شرم الشيخ). وهو يوضح بجلاء إدراك حماس لخضوعها لعملية الترويض عبر التواصل السياسي، وأنها تدرك أن فتح الآفاق الدولية أمامها لا ينفك عن "ابتزاز المواقف منها"، حسب تعبيرها الصريح.

وكما أوروبا، وجدت روسيا فرصة الدخول على خط القضية عبر الدندنة حول عقد مؤتمر موسكو، وكانت الرباعية قد دعمت في اجتماع عقدته في نيويورك في 15/12/2008 فكرة استضافة موسكو لمؤتمر دولي في ربيع عام 2009 بخصوص حل النزاع في الشرق الأوسط (روسيا اليوم 16/12/2008)، ومن ثم أيّد مجلس الأمن الدولي الفكرةَ ضمن القرار رقم 1850، وتم ذلك خلال مرحلة انشغال أمريكا بالانتخابات وما بعدها من تحول الإدارة من بوش إلى أوباما.

وجددت روسيا دخولها لساحة القضية عبر التواصل مع قيادات حماس، وشاركت في عملية الترويض، وصرّح وزير خارجيتها لافروف (حسب روسيا اليوم بتاريخ 12/5/2009) قائلا "سنواصل اتصالاتنا بحركة حماس وسنحثهم على القيام بخطوات من شأنها الوصول لسلام في فلسطين"، وبالفعل تواصلت قيادات حماس مع روسيا وهي تدرك تلك الغاية. ولكن أمريكا ظلّت تحرص على المحافظة على الإمساك بكافة خيوط القضية بيدها، ولذلك ظلّت تركز على إفشال جهود روسيا.

وفي تلك الأجواء الترويضية، استمرت جعجعة الحوار الوطني في القاهرة بلا طحن، وأعادت أمريكا القبض على خيوط التحركات من جديد، وذلك تزامنا مع انطلاقة أوباما الدبلوماسية نحو العالم الإسلامي. واتسمت تحركات رئيس أمريكا الجديد بالنعومة (الخادعة)، إذ حاول تعمير صورة أمريكا، وراح يغازل الأمة الإسلامية التي سالت دماؤها تحت القصف الأمريكي، فخطب في استانبول في نيسان 2009 متودّدا، ، ثم خطب في القاهرة في حزيران 2009، يجتذب المسلمين، للتخفيف من "التوتر بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي" حسب تعبيره (خطاب أوباما في القاهرة). واعتبر فيه أن "الوضع بين الإسرائيليين والفلسطينيين والعالم العربي" هو مصدر رئيس للتوتر.

وقد استخدم أوباما في خطابه تعبيرات راقت للسذج من المسلمين ومن الفصائل الفلسطينية، ودغدغ مشاعرهم بأنه يريد وقف الجديد من الاستيطان، مع انه لم يخجل –في خطابه الناعم- من تأكيد قوة العلاقة الأمنية والسياسية بين أمريكا "وإسرائيل"، وأكّد حلَّ الدولتين وجدد صلاحية خارطة الطريق. وكان أوباما قد التقى عباس قبل خطاب القاهرة (الجزيرة نت 29/5/2009)، وأمره بوقف ما سمّاه العنف المضاد ل"إسرائيل" والتحريض المناهض لها، مما أكّد أن أوباما الناعم كان يعمل مع السلطة على رفع سقف الالتزامات الأمنية، نحو مجابهة التحريض (اللفظي)، ومع ذلك، صفّق المنخدعون لأوباما في القاهرة.

وغازل أوباما في خطابه حركة حماس بالقول أنها "تحظى بالدعم من قبل بعض الفلسطينيين" وحمّلها مسؤولية "أن تضع حداً للعنف، وأن تعترف بالاتفاقيات السابقة وأن تعترف بحق إسرائيل في البقاء"، واستمال هذا الغزل السياسي خالد مشعل، فردّ عليه  في خطاب من دمشق في 25/6/2009 مرحبا ومقدّرا "لغة أوباما الجديدة تجاه حماس" (خطاب مشعل في دمشق). وأعطى مشعل إشارة جديدة نحو الجهوزية للترويض في صيغة سؤال: "وهل تريد إدارة أوباما بالفعل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي حتى خطوط الرابع من حزيران 1967"، مما فُهم سياسيا أنه قبول بالحل الأمريكي مشروط الانسحاب، (وحركيا أمام الأتباع أنه لإحراج لأمريكا!!!).

وكانت حماس قد انتقدت -قبل الخطاب والمغازلة- لقاء عباس أوباما (المذكور) واعتبرته مخيبا للآمال (صوت الأقصى 29/5/2009)، ثم تحركت لديها الآمال بعد أيام من ذلك النقد، ووجدت خطاب أوباما في القاهرة محركا للآمال، فردت عليه! وبين الحدثين، كان المروّض العريق جيمي كارتر قد تدخل من جديد في تلك الفترة، وتمكن من زيارة غزة (بعد لقاء عباس أوباما)، وعقد مؤتمرا صحفيا مع رئيس حكومتها هنية، في 16/6/2009، تجرّأ فيه هنية على التصريح بأنه "يدعم قيام دولة فلسطينية في الأراضي التي احتلتها (إسرائيل) عام 1967" (العربية نت 16/6/2009)، بل واعتبر ذلك حلما يسعى إليه، في قوله: "ندفع باتجاه تحقيق هذا الحلم الوطني الفلسطيني لإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس". 

وكان ذلك المؤتمر الصحفي المشترك بين كارتر وهنية قد جدد في رمزيته مشهد المؤتمر الصحفي المشترك بين عرفات ومكلوسكي بعد لقاء عرفات بوفد من أعضاء الكونجرس في بيروت في 25/7/1982، إذ وقع عرفات في حينه على وثيقة اعترف فيها رسميا بحق "إسرائيل" في الوجود، مما جعل خبر ذلك التوقيع يتصدر كافة وسائل الإعلام في العالم في حينه (دولة صهيونية مارقة في مقابل أنظمة ومنظمة مستخذية).

وهكذا كان خطاب مشعل، ومن قبله تصريح هنية، خطوة كبيرة ضمن مسيرة القبول بدولة فلسطينية حسب الرؤية الأمريكية، فأصدر حزب التحرير بيانا تنبيهيا شديد اللهجة في 26/6/2009، عنونه "سلطة حماس تتِّبع سنن سلطة فتح شبراً بشبر وذراعاً بذراع!!"، مما استفز سلطة غزة، فشنّت حملة اعتقالات في صفوف حزب التحرير في غزة، واعتدت عليهم بالضرب.

وفي معمعة تلك الخطابات، جدد نتنياهو الحراك "الإسرائيلي" الكاذب، وطرح رؤيته للحل على أساس دولة منزوعة السلاح، كما نص خطابه تعقيبا على خطاب أوباما (نص خطاب بنيامين نتنياهو في جامعة بار إيلان في 14/6/2009)، مشددا فيه على "الحصول أولا على ردود حول احتياجاتنا الأمنية"، ومجددا نظرة دولته نحو "تحقيق السلام الاقتصادي"، ومشترطا لذلك حصول الإقرار الفلسطيني العلني بيهودية "إسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي"... ومتنصلا من أي التزام نحو "مشكلة اللاجئين".

ورحبت أمريكا وأوروبا برؤية نتنياهو، وهكذا استطاع نتنياهو تفريغ ذلك الحراك السياسي المتجدد من أي فعل على الأرض. وكانت أمريكا غارقة في مفاعيل الأزمة المالية، وفي ذيول الحرب على الإرهاب، وغاطسة في الوحل الذي خلّفته في العراق وفي أفغانستان، ومشتتة في متابعة بروز قوى دولية صارت تحاول فرض حضورها، ولو كقوة اقتصادية مثل الصين. ولذلك ظل الموقف الأمريكي من قضية فلسطين -في تلك الفترة يدور حول إدارة الأزمة لا حلها.

وهكذا استمر الحراك -الدولي و"الإسرائيلي"- الكاذب نحو السلام في العام 2009، وكان عام الخطابات والخطابات المضادة، وتتابعت نشاطات الترويض السياسي لقيادات حماس وتصاعد معه حديثها عن دولة في حدود 1967، فيما تعاقبت جلسات الحوار الوطني الفارغة بدون منجزات، وظل موضوع تشكيل وفاق وطني يجمع بين المفاوضة والممانعة في منطقة ضبابية وسطى أمرا متعسرا من الناحية اللوجستية، وانحشرت قضية فلسطين ضمن أنفاق ذلك الحوار، كما تحرّك أهل غزة ضمن أنفاق تحت الأرض لكسر الحصار المفروض عليهم.

23-12-2012