مشروع السلطتين الفلسطينيتين 7

تصاعد فقاعة الفياضية كطريق ثالث بين التفاوضية والكفاحية

الدكتور ماهر الجعبري-

عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين

 

بينما استمر الحوار الوطني كجعجعة لم تطحن الخلافات والتنافس بين قيادات فتح وقيادات حماس، استمرت حكومة فياض في الضفة الغربية، وظلت حماس ترفض قرارات السلطة، بينما ظلّت حكومتها تسمى بالحكومة المقالة، ثم بدأ نجم فياض باللمعان شيئا فشيئا، حتى ظهر مصطلح الفياضية.

كان الصعود السياسي لفياض بالتوازي مع تعثّر نهج المفاوضات الذي يقوده عباس، وفي ظل انسداد الأفق السياسي للسلطة ولفصائل العمل الوطني، رغم التنازلات المستمرة لعباس ورغم العمل الدولي اللحوح على ترويض حماس، ورغم تجهيز الأجواء الدافعة لمسار المفاوضات عبر ورقة المصالحة المصرية، إذ ظلت "إسرائيل" تنفّس الضغط الدولي عليها بالهروب نحو ارتكاب الجرائم وبالتهديد بضرب إيران، مما أوصل قادة المنظمة لحالة من الإحباط، كما استعرض المقال السابق (الجعجعة الفصيلية والحراك السياسي الكاذب)، ويلخص هذا المقال مسار فياض الذي سلكه بالتوازي مع مسار عباس التفاوضي، مما يمكن أن يكون محل جدل ما بين كونه البديل أو المكمل:

كان فياض قد تسلم وزارة المالية بعد فضائح الفساد في السلطة، وتم فرضه –أمريكيا- على ياسر عرفات عام 2002 في أول حكومة "إصلاح". لكن البروز الأكبر لفياض تم منذ الانشطار السلطوي، حيث تصاعد حضوره على الساحة الفلسطينية، وأخذ يتحول شيئا فشيئا عن دور "المدير" إلى تمثّل دور "السياسي" المؤثر على مسار قضية فلسطين، وأخذ يروج لرؤية تحقيق الدولة عبر مسار البناء المؤسسي، مستندا بالطبع إلى خلفيته "المهنية" كمسئول في البنك الدولي، وإلى عراقة ارتباطه بأمريكا، ودعمه فيها من مؤسسات صنع القرار.

ولما كان عبّاس يتهيأ لمتابعة مسار المفاوضات مع نهاية صيف 2009، كان فياض يحضّر خطة الدولة، ونشرها كبرنامج الحكومة الثالثة عشرة تحت عنوان "فلسطين: إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة" في أب 2009، ومع أنها خطة سياسية إلا أنها كانت أشبه بالخطة الإدارية التي ركزت على بناء مؤسسات "الدولة" لتقديم الخدمات، معتبرا أنها "رافعة أساسية لإنهاء الاحتلال"، تمهيدا لإعلان الدولة خلال عامين من تاريخ الوثيقة، وكان فياض قد قال لدى طرح الخطة "ينبغي على الفلسطينيين أن لا ينتظروا التسوية السلمية النهائية مع إسرائيل، ولكن عليهم المضي قدما في إنشاء دولتهم"، ولذلك يمكن فهم هذه التصريحات على أنها تكشف عن منطق "البديل" عن مسار التفاوض الذي ظل عباس يتابعه.

والحقيقة أن الفياضية كانت أشبه بإنشاء بلدية خدمية في الضفة الغربية تقوم على الجباية من الناس لتأمين تكاليف تشغيلها، وهي بالتالي تعفي الاحتلال من مسئولياته تجاه الأرض التي يحتلها والناس فوقها.

وأخذت حكومة رام الله تعمل على تعزيز نشاطات الجباية من الناس لتأمين موارد مالية للسلطة، وصارت سياستها المالية تميل نحو تحميل الناس تكاليف تشغيل السلطة عبر رفع الضرائب، بدل أن تعمل على تعزيز اقتصاد الصمود. وصارت حكومة فياض تضلل الناس بالقول: "ماضون في الاعتماد على مواردنا"، كما قال الناطق الرسمي باسم الحكومة الفلسطينية (وكالة معا في 3/1/2010)، فيما لا يتضمن كلامه توضيحا لتلك الموارد خارج سياق مفهوم الجباية والضرائب، بل إن الخبر نص على "تفعيل جباية الضرائب وبالتالي زيادة الإيرادات الذاتية".

وبالتوازي مع نشاط فياض في اتجاه "التطوير المؤسسي" والجباية، كانت حكومته تتورط في أجندة التخريب الثقافي عبر مجموعة من النشاطات التي استهدفت حرف أهل فلسطين عن المفاهيم الإسلامية الأصيلة نحو السلوكيات الغربية ونحو التطبيع: فمثلا أطلقت السلطة الفلسطينية مهرجان "القدس عاصمة للثقافة العربية" في آذار 2009، مما حمل ترويج التطبيع من خلال تفعيل الزيارات العربية الرسمية عبر شبابيك السفارات "الإسرائيلية". وفي 26/10/2009 تم إجراء مباراة كرة القدم النسائية التي جمعت المنتخبين الفلسطيني والأردني يوم 26/10/2009، بحضور الشخصيات السياسية وعلى رأسهم فياض، الذي وصف الحدث بأنه "يومٌ سعيدٌ وتاريخي" (وكالة معا في 30/10/2009)، فجمعت المباراة بين استمراء كشف عورات الفتيات، وبين التطبيع من خلال ترويج زيارات أهل الأردن عبر التنسيق مع الاحتلال. وفي 7/12/2009 تم بشكل مخز إطلاق مسابقة ملكة جمال فلسطين، مما يناقض أبسط مستوى الوعي عند شعب تحت الاحتلال.

واجتهد فياض في تشويه مفهوم مواجهة الاحتلال، وصار يروّج لمصطلح المقاومة السلمية مع أنها في حقيقتها طريق لترسيخ الاحتلال. وتتابعت دعواته للتعبير السلمي عن الغضب ضد الاحتلال، وصار يشارك بين الحين والآخر في مسيرات سلمية ضد الجدار الذي تقيمه "إسرائيل" في الضفة الغربية في مناطق مثل قرية بلعين، وصارت عناوين الصحف المحلية تكون "فياض في بلعين: المقاومة الشعبية السلمية ستتواصل حتى انتهاء الاحتلال الإسرائيلي" (صحيفة الأيام في 23/4/2009)، وقال فياض في كلمة في مؤتمر بلعين الدولي الخامس للمقاومة الشعبية، إن "المقاومة الشعبية السلمية هي الحلقة الأساسية" لإنهاء الاحتلال" (صحيفة الشعب في 22/4/2010)، وهكذا جمع فياض بين التخريب الثقافي وبين التشويه السياسي للمفاهيم الراسخة في وعي الأمة.

ومع تقدم فياض في مسيرته المؤسساتية وفي نشاطاته التضليلية، بدأ يحصد الدعم من المجتمع الدولي، فأعربت اللجنة الرباعية في آذار 2010 عن تأييدها لخطة فياض (الجزيرة 3/4/2010)، وفي تلك الأجواء، صرح فياض أنه سيتم إعلان "الدولة الفلسطينية" في العام 2011، لتعيش إلى "جانب دولة إسرائيل في توافق كامل" (الجزيرة 3/4/2010)، وتجرّأ عندها على الإفصاح عن التخلّي عن قضية اللاجئين بالقول "سيكون للفلسطينيين حقُ الإقامة داخل دولة فلسطين"، وأثار ذلك ضده موجة من السخط في بعض أوساط الفصائل الفلسطينية.

وأحسّت بعض الرموز في فتح كأنّ فيّاض يخطف الأضواء عنها، وربما أحسّت بمشاعر التنافس وهي تنظر لمساره "كبديل" عن مسار المنظمة التفاوضي، فتصاعدت لديها لهجة التصريحات الناقدة لفياض، حتى وصل الأمر بأحد قياداتها -عزام الأحمد- للقول أن "كل السلطة الفلسطينية لا علاقة لها بالسياسة" (في لقائه على فضائية القدس يوم 12/4/2010)، بل إن الأحمد وصف فيّاض مصغِّرا بأنه "جاء من مدرسة البنك الدولي"، وأنه "غير مخول أصلا" بالشأن السياسي. ثم إن الناطق الرسمي باسم فتح قد كتب مقالا يكشف عن تلك الحالة من التنافس مع فياض بل التخوّف منه، حتى وصل به الأمر للتهديد بأن صبر فتح قد ينفد (حصريا لـمعا - فهمي الزعارير يكشف خبايا الثوري والتغيير الوزاري بتاريخ 12/5/2010)، وتحدث عمّن يحاول استحداث فوارق بين فياض وبين محيطه الوطني المتمثل في منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها عباس، ومن ثم حاول التودّد بالقول "لسنا أعداء د. سلام فياض، بل حاضنته وداعميه".

ودون أن يتورط في جدل إعلامي مع فتح، استمر فياض في التقدم نحو بلديته (الكبيرة)، إدراكا منه أن من يملك مفتاح الخزنة هو من يستطيع أن يصمد، خصوصا في ظل هيمنة "منطق الاسترزاق" من السياسة على عقلية رموز السلطة.

وخلال تلك الصراعات، تلقى فياض دعما إعلاميا أمريكيا، حيث وضعته مجلة التايمز الأمريكية في المرتبة العاشرة في القائمة التي ضمت مئة شخصية هي الأكثر تأثيراً على مستوى العالم، ونقلت شهادة توني بلير حول أداء فياض في "تقوية الـمؤسسات الحكومية الفلسطينية وأجهزة الأمن" رغم الصعاب والـمعوقات السياسية (صحيفة الحياة في 1/5/2010). ثم صارت بعض وسائل الإعلام الأمريكية تروج لمسار فياض، وراج مصطلح "الفياضية"، بشكل لافت في تلك الفترة بين أوساط المراقبين والمحللين الغربيين.

ومع ذلك، تصاعد جدل سياسي في الأوساط الأمريكية حول فعالية طريق فياض في البناء المؤسسي كبديل عن نهج عباس في المسار التفاوضي. وبدا كأن هنالك موقفين أمريكيين من "الفياضية": موقف المتبني لها والموصي بها خيرا، وموقف المشكك في جدواها وخصوصا إذا لم ترتبط بالعملية السياسية التفاوضية:

منها ما نشرته إحدى كينونات-حاضنات التفكير الأمريكية (Think Tank): تقرير لناثان براون صادر عن مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي في أيلول 2010 بعنوان "فياض كشخص ليس المشكلة، لكن "الفياضية" كبرنامج ليست الحل للأزمة السياسية في فلسطين"، وعقّب فيه الكاتب على عاصفة من الأسئلة والانتقادات حول دراسة نشرها تنتقد الفياضية كنهج، وبيّن فشل منطق "الادعاء" بنجاح العملية السياسية في العراق وأفغانستان للبناء عليها في فلسطين، وبالتالي خلص للقول محذّرا "فالاعتماد على الفياضية وحدها -...- يُحتمل أن يؤدي إلى الفشل وخيبة الأمل"، لأنها كإدارة تكنوقراطية قد تُحسّن الأداء المؤسساتي، ولكنها "لا تدّعي تقديم حل للمشاكل الأعمق التي تعاني منها الحياة السياسية الفلسطينية".

وفي مقابل رؤية ناثان هذه، نشرت مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية الصادرة عن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية (كينونة تفكير أمريكية) في عدد 1/2011، تقريرا بعنوان "الطريق الثالث نحو فلسطين: الفياضية والسخط منها" ("A Third Way to Palestine: Fayyadism and Its Discontents")، تحدّث بايجابية عن "الفيّاضية" كطريق ثالث نحو فلسطين، بعد طريق المفاوضات، وطريق الكفاح المسلح الذي تخلت عنها القيادات الفلسطينية، حسب التقرير. وقد أعده روبرت دينن، الذي كان جزءا من فريق "الرباعية" في القدس، وقد كان مسئولا في مجلس الأمن القومي الأمريكي في مجال الشؤون "الإسرائيلية"-الفلسطينية، وقد اعتبر أن إستراتيجية فياض تأتي كإضافة تكميلية لمسيرة أوسلو، بل وتبدو ظاهريا كبديل عنها. ثم امتدح دينن خطة فياض، واعتبر أن الوقائع على الأرض تبرهن أن خطة فياض أصبحت أهم من "العشاء" الذي جمع عباس وننتياهو في واشنطن، في إشارة إلى تفضيل مسار فياض على مسار عباس التفاوضي، واعتبر الفياضية واعدة، وأوصى "إسرائيل" بدعم فياض في تحقيق رؤيته.

وظلّ فياض مصدر إزعاج وقلق لقيادات فتح في الضفة الغربية من باب التنافس، ولحكومة حماس في غزة، التي حاولت أن ترسخ وجودها على أنها صاحبة الشرعية، وصعدت من نشاطها "الدبلوماسي"، ووسّعت دائرة علاقاتها الدولية.

ومع نهاية العام 2010، انتشرت موجه من التسريبات الدبلوماسية التي ألقت بظلالها على قضية فلسطين، إذ نشرت وكالة رويترز في تشرين الثاني 2010 أن تسريبات ويكيليكس كشفت عن برقيات دبلوماسية مسربة عن مسئول "إسرائيلي" كبير "أن إسرائيل تشاورت مع القيادة الفلسطينية المدعومة من الغرب ومع مصر قبيل هجومها على قطاع غزة في نهاية 2008 ومطلع 2009" (مثلا موقع سوِس انفو في 30/11/2010).

ثم تناقلت وكالات الأنباء تسريبات تضمنت "استعداد قيادة حركة حماس الاعتراف بإسرائيل وذلك حسب رئيس وزراء قطر ووزير خارجيتها الشيخ حمد بن جاسم" (موقع مصرس في 1/12/2010). وعندما التقى رئيس وزراء سلطة حماس إسماعيل هنية مجموعة من الصحفيين الأجانب بتاريخ 1/12/2010، لم ينف ما كشفته تلك التسريبات، بل أكد "أن حكومته ستقبل أية نتيجة يسفر عنها استفتاء عام يشمل الضفة الغربية وقطاع غزة والمهجر حول أي اتفاق مع إسرائيل حتى وإن خالفت النتيجة قناعات حركة (حماس) الأيديولوجية"، مؤكدا قبول دولة فلسطينية في حدود 67.

وهكذا دخل فياض سجل قضية فلسطين عبر اختراع نهج "سياسي" في بناء الدول، لم يكن في حقيقته سوى نهج لإدارة مؤسسة خدمية كأنها بلدية من خلال الجباية، أو مؤسسة أهلية تقوم على استجداء الأموال (fund raising) من الدول المانحة.

ومع أن فيّاض حضّر خطة الدولة التي اختزلت مفهوم "الدولة" في تقديم الخدمات، ومع أن حكومته انخرطت في تعزيز الجباية، بالتوازي مع نشاطات التخريب الثقافي مثل تشويه مفهوم مواجهة الاحتلال، ومع أنه حصد الدعم من المجتمع الدولي، مما حرّك الغيرة والتنافس عند رموز فتحاوية، إلا أن الفياضية -كنهج مواز أو بديل عن نهج التفاوضية ومنافس لنهج سلطة غزة- ظلّ محل جدل في الأوساط الأمريكية حتى خلص ناثان براون إلى القول "قد تبقى الفياضية في موقع المسؤولية والقيادة لفترة قصيرة، لكنها لن تفي بوعودها لمؤيديها". ولذلك نختم بالقول أن الدعم الأمريكي ساهم في صناعة فياض كموظف، وفي نفخه كفقاعة "الفياضية"، ولكنها زائلة.

6-1-2013