أمة عريقة يحركها مبدؤها قبل لقمة العيش، ولكن المستعمرين يضللون!

علاء أبو صالح*

في تضليل بيّن لا تخفيه القوالب الفلسفية، يسعى الغرب عبر كتّابه إلى التقليل من أهمية حراك الأمة الثوري، ويسعون لتسطيح مطالب هذا الحراك وأهدافه، وهو حراك بلا شك أربك ساسة الغرب في واشنطن ولندن وباريس، فاضطربت مخططاتهم للمنطقة، واهتز نفوذهم الاستعماري بسقوط أركانه من الطغاة النواطير الذين جثموا على صدر الأمة عقوداً وسخروا طاقاتها وثرواتها لخدمة أسيادهم المستعمرين، فسعوا جاهدين لإجهاض هذا الحراك والالتفاف على مطالبه.

في هذا السياق يتحدث توماس فريدمان الكاتب الأمريكي الشهير، في مقال بعنوان "الدافع الخفي المثير للخوف"، مقللاً من شأن ثورات الربيع العربي، عازياً سبب الثورة المصرية مثلاً إلى "الجفاف الأشد خلال قرن كامل في الصين وموجات الحرارة القياسية والفيضانات في أكبر الدول المنتجة للقمح في العالم -أوكرانيا وروسيا وكندا وأستراليا- الأمر الذي أدى إلى شح إنتاج القمح وارتفاع أسعاره بشكل غير مسبوق في العالم، وخاصة في الدول المستوردة للقمح". فلولا ذلك الجفاف وغلاء القمح لما تحركت الجماهير في ميدان التحرير.!

ونقل الكاتب عن دراسة بعنوان "ثورات الربيع العربي والتغير المناخي" أن سوريا وليبيا شهدتا سيناريوهات مماثلة. وقال إنه ومنذ عام 2006 وإلى عام 2011 عانت 60% من الأراضي الزراعية في سوريا أسوأ جفاف يتم تسجيله على الإطلاق في وقت تشهد فيه البلاد انفجارا سكانيا ونظاما سياسيا فاسدا وغير كفء وعاجزا عن إدارة الأزمة. وأضاف أن الأمم المتحدة ذكرت عام 2009 أن حوالي 800 ألف من الفلاحين والرعاة السوريين فقدوا مصادر عيشهم تماما بسبب الجفاف ونزحوا إلى المدن. وأشار إلى أن الجفاف تسبب في شح كبير في المياه بليبيا.

ويسعى الكاتب إلى إثبات "أن التفاعل بين التغير المناخي وأسعار المواد الغذائية والسياسة هو الدافع الخفي الذي أثار الثورات العربية وسيستمر في تأثيره السلبي على استقرار نظمها الديمقراطية."

إن فكرة تسطيح الثورات وإيهام الجماهير، الثائرة منها والمتحفزة للثورة، بأن هدف الثورات هو لقمة العيش لا غير هي مغالطة واضحة يكررها الغرب ومفكروه ويرددها أبواقه ونواطيره من الحكام والمضبوعين بثقافته في البلاد الإسلامية؛

فحقيقة الثورات ودوافعها وغايتها المعلنة، لا سيما ثورة الشام التي باتت العقدة المفصلية في الثورات السابقة واللاحقة، لا تخفى على مفكر بل سياسي ماكر كتوماس فريدمان، وهي مغالطة يُقصد بها مجابهة الثورات فكرياً وإبعادها عن مكمن قوتها المتمثل في الإسلام بفكره وأنظمة حياته، والذي باتت تتطلع إليه الشعوب وإلى مشروعه الحضاري كمخلص وحيد لها مما تعانيه.

إن فكرة تسطيح الثورات وربطها بلقمة العيش بصورة مجردة، فيه إهانة لأمة عريقة سادت الدنيا لأكثر من ألف وأربعمائة عام، وفيه قفز عن تاريخها الحضاري المشع، ومحاولة للفصل بين ذلك التاريخ وبين الحاضر والمستقبل الذي تتطلع إليه،

فالأمة الإسلامية لم تنفك عن جذورها الضاربة في عمق التاريخ والممتدة للمستقبل القريب الذي بتنا نرى بشائره رأي العين، فالأمة الإسلامية لم تمت وإن ضعفت واستعمرها ذئاب بشرية تحت شعار الديمقراطية!، بل هي أمة دبت فيها الحياة بعد فترة مرض وخمول، وها هي تتململ وتنفض عن كاهلها غبار الذل والخضوع، وهي أمة لها مستقبل سيتحقق بوعد من الله ورسوله أولاً بالاستخلاف والتمكين وانتشار الإسلام، وبجهود المخلصين منها الساعين لنهضتها وإقامة نموذجها الحضاري (الخلافة).

إن الثورات التي اجتاحت بلاد المسلمين لم يكن منبعها لقمة العيش المجرّدة، ولو كان ذلك صحيحا لما قدّم الناس أرواحهم فداء هذه اللقمة ولآثروا السلامة وفق منطق البشر الطبيعي، بل هي ثورة على الذل والتبعية وعلى الكفر والاستعمار، ثورة لاستعادة مكانة الأمة المرموقة خير أمة اخرجت للناس، فهانت في سبيل هذه الغاية العليّة الأنفس والأموال.

فلا يخفى على متابع –علاوة على أن يكون مفكراً سياسياً- أن الثورات انطلقت من المساجد وكانت أهازيجها التكبير، وشعاراتها -تجلت في الشام وها هي تشتد وضوحاً في ليبيا وتونس ومصر- تطبيق شرع الله وإقامة الخلافة، وغابت عنها شعارات الرغيف ولقمة العيش وطغت عليها شعارات المبدأ والدين.

وبغض النظر عمّا حدث في تونس ومصر وليبيا إلى الآن، فما أفرزته هذه الثورات كان مؤشراً واضحاً على حقيقة أهداف هذه الثورات من تطلعها إلى نظام حكم بديل ينبع من إسلامها ويكفل لها العيش الكريم بجانب العزة والسؤدد، وما استمرار الثورة في هذه البلدان إلا بسبب عدم تحقق تلك الأهداف والغايات التي تطلعت إليها الجماهير وإن لم يظهر الإعلام ذلك إلا في بعض المناسبات أحياناً.

وها هي الأمة في سوريا تعبّر عن هذه الأهداف والتطلعات بلسان عربي فصيح، فتهتف "الأمة تريد خلافة إسلامية"، وتعلن رفضها لمشروع الدولة المدنية الديمقراطية، وتلتف حول مشروع الخلافة، وتوقع كتائبها وألويتها على ميثاقٍ للتعاهد على إقامة حكم الله في الأرض.

إن سوء الأوضاع المعيشية في البلدان الإسلامية لا يمكن إنكاره، لكن المغالطة أن يتم التعمية عن الأسباب الحقيقة التي تسببه، فليس الجفاف ولا نضوب القمح سببه الرئيس، بل هي سياسة مقصودة يتبعها الحكام الطغاة الموالون للاستعمار، فبلاد المسلمين أغنى بلاد العالم، وخيراتها –من النفط والغاز والمعادن- لا تنضب، وموقعها استراتيجي بامتياز، لكنها مع ذلك كله تعاني الفقر وخيراتها منهوبة لصالح واشنطن ولندن وباريس بأيدي طغمة مجرمة نصّبهم الاستعمار على رقابنا حكاماً.

إزاء هذه الأهداف وهذه الحقائق فمن السخف القول أن هناك ارتباطاً بين التغيّر المناخي وثورات الربيع العربي، ومن السخف اعتبار المسلمين مجرد حفاة عراة يبحثون عن لقمة تسد رمقهم وثياب تستر عورتهم، وهو منطق يذكرنا بمنطق هرقل وكسرى الذين استخفا بالمسلمين وبأهدافهم السامية فكان عاقبتهما انهيار مملكتيهما وظهور المسلمين، وهي حادثة تتكرر فالزمان قد دار دورته.

5-3-2013

*عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين