الإسلام أولاً وأخيراً ولا غير
بقلم: علاء أبو صالح
بأسلوب مزج بين الجدّ والهزل تارة وبين الاستدلال الفقهي (المغلوط) واستمداد الأحكام من الوقائع بعيداً عن الفقه وأصوله تارة أخرى كتب الشيخ راشد الغنوشي مقالاً له نشر عبر الجزيرة نت بعنوان "الحرية أولاً".
"الحرية أولاً" مقال ملأه الغنوشي بالمغالطات الفقهية والاستدلالات العقيمة وهجر النصوص الشرعية ووصف الأحكام المستمدة منها بالجمود، "الحرية أولاً" نموذج من نماذج التحريف الفكري المسمى بالتجديد زوراً وبهتاناً، وهو كذلك مثال صارخ على من اتخذ من الواقع مصدراً لتفكيره لا محلاً له وحاول إضفاء الصبغة الشرعية على الأفكار التي خلص إليها عقله باسم المصلحة ومقاصد الشريعة وفقه العصر.
قد يصاب القارئ لهذا المقال بالصدمة للوهلة الأولى حينما يذكر أن كاتبه هو أحد قادة الحركات الإسلامية "التجديدية!!" عندما يبحث في المقال عمّا هو متأخر عن الحرية أو ما هو المطلب الذي يأتي ثانياً بعد الحرية ليجد أنه الإسلام وتطبيق أحكامه. ولكن قد تزول تلك الصدمة إذا علم القارئ بأن كاتب المقال قد كان له سوابق عديدة ولوثات فكرية كثيرة حتى عدّه البعض من المجددين (أصحاب دعوى تحريف الدين باسم تجديده).
ولولا انتشار مقال الغنوشي عبر الجزيرة نت وفتح الأبواب الإعلامية أمام كتابات الغنوشي لما أحتاج مقاله هذا للرد لتهافته شرعاً عند من أحاط بأدنى العلوم الشرعية وعند من وعى الفكر الإسلامي.
يعيب الغنوشي في بداية مقاله عمن يقابل الحرية بالإسلام ويعتبر هذه المقابلة "بشعة" لاعتباره أن لا تصادم بين الحرية والديمقراطية وبين الإسلام، وهو في هذا المقام لا يقصد بالحرية التحرر من الاستعمار أو العبودية بل الحرية المنبثقة عن المبدأ الرأسمالي الذي يسميه البعض بالمبدأ الحر أو مبدأ الحريات وهي الحريات الأربع المعروفة بل إنه عاب على بعض الحركات والعاملين في الحقل الإسلامي رفضهم لفكرة الحرية والديمقراطية بقوله (لا تزال جماعات إسلامية تجعل من تكفير الديمقراطية رزقها وشنآن الحرية ديدنها، مجادلة أنه "لا حرية في الإسلام" بل تقيّد بأحكام الشريعة، في تقابل بشع بين الإسلام والحرية، بينما تكتوي شعوبنا بالاستبداد حتى اعتبر ممثل الوسطية الإسلامية الشيخ القرضاوي مطلب الحرية له الأولوية على مطلب تطبيق الشريعة).
ويبدو أن الغنوشي لم يفرق أو تعمد عدم التفريق بين الحرية التي تعني التحرر من الاستعمار والعبودية وبين مبدأ الحرية وهو المبدأ الرأسمالي القائم على عقيدة فصل الدين عن الحياة والذي انبثق منه النظام الديمقراطي كشكل لنظام الحكم الذي يجعل السلطات الثلاث بيد الشعب دون سواه فالتشريع فيه للناس لا لله والسلطات التنفيذية والقضائية للشعب دون أن تقيده أحكام أو تشريعات فالشعب حرٌ في حكم نفسه بالنظام الذي يختار وبالشخص الذي يختار ذكراً كان أم أنثى مسلماً كان أم كافراً.
ولا شك عند من أحاط بأدنى العلوم الشرعية في تصادم هذا المبدأ مع الإسلام الذي جعل أسمى صفات المسلم هي العبودية لله وحده ولا تعني العبودية هنا التقيد بالصلاة والزكاة والصيام فحسب بل التقيد بجميع أحكام الشريعة التي جاءت مكتملة وشاملة لكل جوانب الحياة ومستجداتها، كما أن النصوص الشرعية التي مرّت مراراً وتكراراً على الغنوشي وأمثاله تؤكد هذه الحقيقة الساطعة بما لا يدع مجالاً للشك أو الريبة فالله عزوجل يقول (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) ويقول كذلك (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) ويقول (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) بل إن الحق تبارك وتعالى قد اعتبر ما سوى الإسلام كفراً وطاغوتاً واعتبر من يلجأ إلى التحاكم إليه أنه يزعم الإيمان زعماً وأمرنا بالكفر به ونبذه وتركه بقوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) أفبعدَ هذه الآيات القطعية الثبوت والدلالة يأتي من ينافح عن اعتبار الديمقراطية بتشريعاتها وأحكامها ونظمها لا تتعارض مع الإسلام بل ويعتبرها مقصداً من مقاصد الشريعة!!! ساء ما يحكمون.
ويتناول الغنوشي في مقاله ما أسماه بمبدأ المواطنة الذي اشتهر بالقول به ويستدل عليه بوثيقة المدينة التي كتبها الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم بين أهل المدينة ومن جاورهم من يهود غير مفرق بين الأحكام الشرعية التي تحرم على المؤمن صراحة أن يكون للكافر سبيل أو سلطان عليه وحرمة أن يتولى الكافر الحكم لقول الله تعالى (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) وبين حقوق الرعوية التي تكفلها الدولة الإسلامية لكل من عاش في كنفها مسلماً كان أم ذمياً، فلا يعتبر الغنوشي تولي قبطي لحكم مصر "كارثة وطنية ولا معصية دينية، فالأمة معصومة من الضلال لو خلي بينها وبين حرية الاختيار، فقد عرفت مصر زعماء أقباطا على قدر عال من الوطنية والقبول الشعبي مثل مكرم عبيد، وكان بعضهم مستشارا ومقربا من حسن البنا." بحسب قوله، بل إنه يترحم على من تولوا الحكم من غير المسلمين بقوله "كما عرفت سوريا رئيسا لوزرائها مسيحيا هو فارس الخوري كان أداؤه جيدا وعلاقاته بالإسلام والإسلاميين ممتازة، فلم يخرب البلد، بل خلف وراءه ذكريات طيبة، ليت كل الذين جاؤوا بعده من الانقلابيين المسلمين ساروا سيرته". ويطالب الغنوشي بالتعددية القائمة على غير الإسلام وعقيدته وأحكامه بقوله "لا يزال في أوساط إسلامية معتبرة ضمن التيار الوسطي تردد في الاعتراف بأحزاب علمانية في دولة إسلامية، ومع أن وثيقة الإخوان في الاعتراف بالتعددية خطوة متقدمة فإنها سكتت في هذا الموضع، مع أن تراث أمتنا وسوابقها في القبول بالتعدد الديني والمذهبي متميزة عن أمثالها" ويمضي الغنوشي في استمداده لآرائه من الواقع الذي يعيش بعيداً عن أي نص شرعي أو اجتهاد فقهي بل إنه يستخدم منطق الغرب والحركات العلمانية بضرورة قبول الآخر الذي لا يمت لعقيدة الأمة ودينها بصلة بقوله"إنه لا سند حقيقيا يبرر الخوف على الإسلام من التعددية ومن الحرية عامة، فكل ما أصاب الإسلام والمسلمين كان في غيابهما. إذا كان هناك من خطر حقيقي نخشاه على الإسلام فهو جمود العقول واستبداد السلطان. أما الحرية فخير وبركة ومقصد عظيم من مقاصد الإسلام، تنتفي بانتفائها إنسانية الإنسان ويتعرض دين الله لأشد الأخطار. وكيف تستساغ مطالبة الإسلاميين الأحزاب الحاكمة وغالبها علماني بالاعتراف بها، بينما هم ليسوا مستعدين لأن يبادلوها نفس الاعتراف؟".
ويأتي الغنوشي في مقاله على محاولة الترويج لفكرة خطيرة وهي انتفاء واندثار فكرة الدولة الإسلامية التي يعتبرها نموذجاً تاريخياً لا حكماً شرعياً وحلول الدول الوضعية الإقليمية والوطنية مكانها بقوله (النموذج التاريخي للدولة الإسلامية الذي تأسس على شرعية الفتح قد انهار وحلت محله دول قطرية على أساس الاشتراك بالتساوي في المواطنة) في محاولة يائسة منه لتكريس هذه القطريات والإثنيات ناسياً أو متناسياً مضلِلاً أن المسلمين أمة واحدة وأنهم يدينون بدين واحد وقبلتهم واحدة وأنهم اليوم يتطلعون أكثر من أي وقت مضى إلى عودة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة التي تلم شملهم وتضمهم تحت راية التوحيد وتطبق عليهم شرع ربهم وهذا الذي يخيف أعداء الأمة الإسلامية منها لا تجارب المشاركة في أنظمة الحكم الجاهلية، ولا "الوسطية" التي يرتمي أصحابها في أحضان الأنظمة التي يصفونها تارة بالاستبدادية وتارة بالإصلاحية وهي أنظمة لا وصف لها ولحكامها سوى بالكفر والظلم والفسق مصدقاً لقول الحق سبحانه (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)، إن الذي أقلق بوش وبلير وبوتين وساركوزي ليس دولاً وطنية إقليمية صنعوها وصنعوا حكامها على عين بصيرة بل قيام دولة إسلامية واحدة تمتد من اندونيسيا حتى نيجيريا، ولكن يبدو أن الغنوشي لم يسمع بتصريحات قادة الكفر وتخوفات مراكزهم البحثية من عودة الدولة الإسلامية برغم عيشه في لندن!!!
ويصر الغنوشي على المضي في مغالطاته الفكرية والفقهية داعياً إلى تولي المرأة لولاية الأمر أي الحكم معتبراً الرأي الفقهي الذي يقول بحرمة ذلك خطأً موروثاً ومعتبراً أن العبرة "بتحقق المصلحة بصرف النظر عن الجنس. ومصلحة الأمة من الحاكم لا تتأتى من نوع جنسه وإنما من كفاءته في تحقيق العدل، مدار السياسة الشرعية كلها، فحيث العدل حيث شرع الله." متناسياً أن منصب الحكم والخلافة في الإسلام هو منصب شرعي قد نص الشارع عليه وعلى صفات من يتولاه وأمر بعزله في حالة فقدانه لبعض الصفات بل وأمر بالخروج عليه بالسيف إن هو حكم بغير الإسلام، لكن كيف للغنوشي أن يدرك ذلك وعقله وهمّه في محاولة تحريف الأحكام الشرعية وهو يعتبر منصب الحكم "الخلافة" في الإسلام قد اندثر وتحول إلى عصر المؤسسات وذلك ظاهر بقوله "على أنه حتى مع التسليم بأن الحديث المذكور قطعي الدلالة في منع الولاية العظمى عن المرأة، فإن هذا المنصب قد زال جملة، لتحل محله إمارات ورئاسات قطرية محدودة، لا سيما وقد تحولت الدولة في عصرنا مؤسسة محكومة بقوانين وترتيبات تمنع الانفراد بالقرار وتكاد تحوّل الرئاسة إلى مؤسسة رمزية بينما القرار حسب القانون يتخذ بعد التشاور بأغلبية الهيأة المقررة." وهذا قول واضح في رده للحكم الشرعي بسبب تغير الواقع فهو يقول "على أنه حتى مع التسليم بأن الحديث المذكور قطعي الدلالة في منع الولاية العظمى عن المرأة" فالغنوشي يريد جعل الواقع ومتغيراته حَكَماً على الأحكام الشرعية لا أن يجعل الواقع يخضع للأحكام الشرعية فيغير الواقع ليطبق حكم الله بل يريد تغيير حكم الله لينطبق وفق أهوائه على الواقع.
هذا جزء من كل وغيض مما فاض به مقال الغنوشي الذي لا يجد فيه المرء سوى المغالطات واللوثات الفكرية التي يحاول الغنوشي وصمها بالإسلامية بطرحها بسبب منصبه كأحد قادة الحركات الإسلامية التي تدعّي نهضة المسلمين.
لقد كان الأجدر بالغنوشي لو كان حريصاً على نهضة الأمة الإسلامية ورفعتها وتخلصها من استبداد الأنظمة الطاغوتية وقهرها أن يكاتف جهوده مع العاملين المخلصين الساعين لنهضة هذه الأمة وإقامة مشروعها الحضاري الذي سيمثل بديلاً حضارياً للرأسمالية التي اكتوى العالم بلظاها لا أن يعمد إلى بث مغالطاته ولوثاته الفكرية لتكون عائقاً ومضلِلاً للمسلمين عن تلك الغاية السامية فتبقيهم رهن الواقع الذليل الذي يعيشون ورهن الإرادة الدولية الاستعمارية ورهن أفكار الحضارة الغربية النتنة.
(إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ )
23/11/2009
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين