المهندس باهر صالح/ عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين

ليس ثمة شك أنّ من حق القارئ على الكاتب إن أراد أن يبني أو يساهم في بناء قناعة لديه حول مسألة معينة أن يخاطبه بما يقع عليه حسه أو يمكن أن يقع عليه حسه، وهنا يقع عتبي على الدكتور ناصر اللحام، رئيس تحرير وكالة معا، الذي رفض أن ينشر الرسالة المفتوحة التي وجهتها له، لما عبر عنه في المكالمة الهاتفية التي أجراها معي بخشيته أن يفهم "الغوغاء" أنّ المقصود من عبارة وردت في الرسالة وهي: "فخير لك أن تعود إلى حضن أمتك ومشروعها العظيم ليكون لك سهمٌ في استقدام الخير العميم الذي أزفت ساعته، بدلا من أن تواصل النفخ في الرماد لظنك أنك قد تحيي منه الأموات بعد رقود فيكون بعدها ولات حين مندم." خشيته أن يفهم "الغوغاء" أنّ المقصود منها أنه قد خرج من الملة، رغم أني طمأنته بأنّ الكلام لا يحتمل ذلك لغة، وأنّ عليه أن يثق بقدرة القراء والمثقفين على فهم مدلولات الخطاب، وأنّ الرسالة المفتوحة واضحة في أنها تتحدث عن غمزه ولمزه ومهاجمته مشروع الإسلام الحضاري مؤخرا، وليست المسألة في شخصه أو دينه، وهو السلوك الذي أرجعه الدكتور بالدرجة الأولى إلى ممارسات بعض الحركات كإغلاق مكتب معا في غزة.

وهنا أصبح العتب تراكمي، فما جاء في المقال الأخير للدكتور بعنوان: "بوكو مش حرام .... السلفية اليسارية" من قوله: "وأخيرا تشرفت بحديث هاتفي مع الاخ المحترم المهندس باهر من حزب التحرير حول رده على مقالة بوكو حرام، وقد أوضح الإخوة في حزب التحرير أن الجماعة النيجيرية الإسلامية لم تقل أن التعليم حرام بل قصدت أن التعليم الغربي حرام ..." إلى قوله: " ولا أعتقد أننا نختلف مع بعضنا في هذا الأمر".  من شأنهّ أن يزيد الأمور إبهاما أمام القارئ، فكيف للقارئ أن يستجلي القضية محل النقاش دون أن يتمكن من قراءة الرسالة التي لم تنشرها وكالة معا.

صحيح أنّ هناك مواقع قامت بنشر الرسالة وهي مشكورة، ولكن لكل موقع قراؤه وجمهوره، وهو ما يملي على وكالة معا وجوب نشر الرسالة والردود التي تتلقاها حول القضايا التي تثيرها، خاصة عندما تكون القضية بهذه الأهمية والحساسية.

وإعادة للأمور إلى أصلها ووضعا للقارئ في صورة القضية أقول:

منذ أن أدرك الغرب صعود نجم الإسلام وإقبال المسلمين القوي على أفكار الإسلام، ورغبتهم في أن يُجسد في الدولة والحكم، بعد أن خُلي قليلا بين الناس وبين التعبير عن رأيهم في بلدان الربيع العربي، وسابقاً في الجزائر وفي تركيا، جن جنون الغرب خاصة وهو يرى تهاوي الرأسمالية وتصدع العلمانية والمدنية التي يروج لها الغرب، بل وانقشاع أهلها عنها رويدا رويدا بالتزامن مع الضائقة المالية والانهيار الذي تعاني منه دول الغرب جراء أفكار الاقتصاد الرأسمالي.

 بعد أن أدرك ذلك وبعد فشله في استغلال حركات "الإسلام السياسي" في احتواء المسلمين ورغبتهم الجامحة في الرجوع إلى الإسلام الخالص النقي الذي لا يقبل بالعلمانية ولا الرأسمالية ولا الديمقراطية ولا الغرب شريكا، فضلا على أن يكون مهيمنا، صرنا نحس بحملة شرسة يشنها الغرب وسفاراته في بلاد المسلمين على الإسلام ومشروعه الحضاري. مصورا فشل الغرب في استغلال حركات "الإسلام السياسي" في تونس ومصر على أنّه فشلٌ للإسلام السياسي، ومخوفا من أن البديل عن العلمانية والمدنية هي تلك الحركات "المتشددة" أو "الراديكالية" أو "الإرهابية" بعد التشنيع عليها وتهويل أخطائها.

فالقضية إذا هي محاولة شيطنة الاسلام والحركات الاسلامية، أو ما يسميه البعض "الإسلام السياسي"، وليست القضية في أنّ جماعة "بوكو حرام" هي مخطئة أم مصيبة في نهجها، فتلك حركة من بين عشرات الحركات التي خرجت على الأنظمة العميلة في بلاد المسلمين واضطرتها الأنظمة لسلوك نهج معين اتصف لدى بعضها بالعنف جراء الهمجية والعدوانية والدكتاتورية التي تعاملت بها معها، فمرة أخرى تلك الحركة لم تطلق على نفسها اسم "بوكو حرام" أي التعليم الغربي حرام، بل الحكومة هي التي أطلقت عليها الاسم، كما أطلقت أمريكا على المسلمين إرهابيين، وعلى الحركات التي تنادي بالرجوع إلى الدين بالأصولية والمتشددة.

أما قضية أننا مع التعليم الغربي أم لا، فتلك مسألة أخرى، إذ أنّ الصحيح في نظرة الإسلام وكذا المبادئ الأخرى كالشيوعية والرأسمالية، أنّ هناك فرقا بين المدنية والحضارة، وبين العلم والثقافة، فكل أمة تعتز بنفسها لها حضارتها وثقافتها وقيمها التي تفخر بها وتختص بها وتدعو الآخرين إلى اعتناقها، وهذه أمور لها شأن أخر غير العلوم والأشكال المدنية التي تسعى الأمم الناهضة إلى تعلمها واكتسابها من مظانها أينما كانت.

فالرسول صلى الله عليه وسلم أرسل من يتعلم صناعة المنجنيق إلى البلاد التي تجيدها، ولكنه لم يرسل أحدا ليتعلم أخلاق وقيم وثقافة الفرس والروم، وكذا الاتحاد السوفيتي والمعسكر الغربي فقد كانا يتسابقان في الصناعات بل ووصل بهما الأمر إلى التجسس لمحاولة سرقة الاختراعات والابتكارات من بعضهما البعض، ولكن لم يسرق أحد منهما أفكار الأخر، بل بقي كل منهما يعتز بقيمه وفكره ومبدئه حتى انهيار الاتحاد السوفيتي وتخليه عن مبدئه.

 فمن الطبيعي أن تقوم كل حضارات العالم باستعمال نفس القوانين العلمية وخصائص المواد والآلات والأجهزة بغض النظر عن ثقافاتها، وهذا حاصل في كل الحضارات وكل منظومات القيم، ولكن يبقى لكل أتباع حضارة حضارتهم وفكرهم وقيمهم التي يختصون بها، فالتلميذ اليهودي والتلميذ المسلم يستعملان نفس الكمبيوتر ونفس قواعد الرياضيات ونفس الأجهزة في المختبر ولكنهما يحملان منظومتين متناقضتين من القيم والعقائد، والتي يحرص كل منهما على عدم اختلاطها أو تماهيها في ثنايا الأخرى، ولا يمكن لأحد أن يقول أن استعمالهما لنفس العلوم ونفس الوسائل يلغي العداء بينهما أو يوحد قناعاتهما ومقاييسهما الفكرية.

وفي الختام:

لا بد لكل أمريء مسلم يعتز بإسلامه أن يعتز بقيمه وحضارته وأن يدعو لمشروع الإسلام الحضاري، وأن يسعى لأن يكون له سهم خير في بناء مشروع الأمة الإسلامية الذي بات يفرض نفسه بقوة على الساحة الدولية، فالخلافة قادمة والإسلام النقي الخالص سيصل قريبا إلى سدة الحكم ليرى العالم بعدها نور الإسلام وخيريته على ما سواه من المبادئ والأفكار، وستبوء كل محاولات الغرب وأدواتهم في النيل من مشروع الإسلام بالفشل بإذن الله. {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} التوبة 33. فهذه دعوة إلى كل المفكرين والكتاب وأصحاب الرأي ممن انخدعوا بالرأسمالية حينا إلى الاصطفاف بجانب مشروع الأمة والتخلي عن مشروع الرأسمالية المتهاوي أخلاقيا وفكريا وقريبا بإذن الله دوليا وعالميا.

فهل سيُراكم الدكتور ناصر العتب بعدم نشره لهذا المقال أيضا أم سيتحلى بروح من يتقبل النقد والنصيحة من إخوانه فينشر السابق والحالي؟!

4/10/2013