رغم المعاناة والأخطار...ثورة الأمة تبشر باندثار الاستعمار

علاء أبو صالح*

 

قد يبدو المشهد السياسي في بلدان الربيع العربي قاتماً، فبعد الحراك السلمي طغى المشهد الدموي وتحول الربيع إلى صراعات أخذت أشكالاً متعددة، واختلطت الأمور وتشابكت، وبدا للناظر أول وهلة وكأن ترك الأمور على حالها كان أقل ضررا وكلفة مما وصلت إليه أحوال الناس في تلك البلدان.

غير أن نظرة متفحصة لما يدور من أحداث ترشد إلى نتيجة تخالف الظاهر وتقرأ ما يجري ضمن سياقه الصحيح.

وحتى تتحصل هذه النظرة المتفحصة لا بد من تحديد الفاعلين والأطراف الحقيقية للصراع الدائر والأدوات المستخدمة، ولا بد من تشخيص طبيعة هذا الصراع.

إن الفاعلين في الأحداث الدائرة في بلاد المسلمين، لا سيما في بلدان الربيع العربي، طرفان رئيسيان لا ثالث لهما، طرف استعماري على تفاوت وتنافس فيما بينه على المصالح والثروات المنهوبة، وبيده القوة والصولجان، وأمةٌ مقهورة مستضعفة تتوق للانعتاق والتحرر، على تفاوت في الفهم وإدراك سبيل النجاة.

ومن الخطأ الظن بأن الحكام والأنظمة التي ارتهنت للاستعمار منذ نشأتها هي طرف فيما يجري، فلا يتعدى دورها دور "الكمبارس" أو الأداة التي يمكن أن تؤدي الغرض فيحافظ عليها مستخدمها أو يصيبها العطل وتهترئ فيستبدل بها غيرها.

أما طبيعة الصراع فهو صراع حضاري استعماري يأخذ الصفة المصيرية للطرفين؛ ففشل الاستعمار في هذا الصراع يحمل بذور انتهاء سيطرته على المنطقة والعالم، وانتهاء وضعية السيد الاقطاعي بالنسبة للدول الاستعمارية التي استعبدت الناس وعاشت على نهب ثرواتهم وتقلبَت في خيراتهم، في الوقت الذي حرمت فيه أصحاب تلك الثروات من لقمة العيش.

كما أن فشل الأمة في هذا الصراع ينذر بوضع كارثي ليس أقلّه استمرار وضع الذل والضعف والدونية الذي تعيشه بل سيؤدي ذلك إلى تفاقمه.

وإزاء هذه الطبيعة المصيرية للصراع الدائر وما يمكن أن ينتج عنه، ألقى الاستعمار بثقله في بلدان الربيع العربي، سعياً لإجهاض ثورة الأمة التي تفجرت جراء ما عانته وتعانيه من ذل وتبعية وضنك عيش، وقد استخدمت القوى الاستعمارية في التصدي لثورة الأمة الدهاء والمكر تارة، والبطش والقمع والقتل تارة أخرى.

ومن الخطأ الظن بأن الثورة التونسية هي غير الثورة المصرية والليبية واليمنية والسورية، بل كلها مظاهر لثورة أمة واحدة مع تمايز بعضها عن البعض الآخر في وضوح الرؤية وإدراك طريق الخلاص.

إن السكوت على النفوذ الاستعماري عقوداً من الزمن، وسعي الدول الغربية للمحافظة على أنيابها الزرقاء المغروزة في جسد الأمة هو ما رفع كلفة التغيير وجعل ثمنه باهظاً.

لقد استخدمت القوى الاستعمارية المكر والدهاء فأوهمت الرأي العام في بادئ الأمر بأنها تصطف بجانب الشعوب ضد الحكام الدكتاتوريين، بينما هم في حقيقتهم مجرد أدوات لها ونواطير على مصالحها، وسعت إلى استبدال وجوه كالحة بوجوه أقل سواداً، ورعت عملية التبديل وكأنها طرف ثالث يلعب دور المراقب أو الوسيط وهي أصل الداء وأس المشكلة.

وفي البلدان التي لم تتمكن فيها من استبدال الوجوه وإجراء عمليات التجميل الشكلية، رعت القمع والقتل ووجهته في سبيل افشال مسعى الأمة وارهابها.

غير أن مسعى الدول الاستعمارية شارف على الفشل الذريع وهناك العديد من المؤشرات التي تدل على ذلك بصورة مباشرة، أذكر منها:

أولاً:إعادة انتاج شخوص الأنظمة البائدة التي ثارت الأمة ضدهم كما في تونس ومصر واليمن، وهو ما يدل على عدم قدرة الدول الاستعمارية على انتاج عملاء ونواطير جدد مؤهلين للقيام بنفس الدور الذي مارسه سلفهم من الحكام الأتباع، فضاقت بهم الخيارات حتى عادوا لاستخدام نفس الزعامات والشخوص التي خلفها الناس وراء ظهورهم.

ويعود ذلك العجز لعاملين رئيسين: أولهما، صحوة الأمة وانتفاضها على حكامها بحيث لم تعد هناك حصانة لأي حاكم ولم تعد تهاب الأمة أن تقول للظالم يا ظالم، فكلهم باتوا قابلين للعزل بل الإطاحة بهم، فلم تعد القوى الاستعمارية قادرة على صناعة عميل تلقي عليه ثوب المهابة وتخوّف الناس من الخروج عليه وعصيانه. وثانيهما، الإفلاس الفكري الذي يعتري الغرب ومبدأه وأتباعه وعدم قدرتهم على طرح بديل يختلف ولو نسبياً عمّا يطبق من أنظمة جائرة فاسدة في بلاد المسلمين.

ثانياً:تحول بلدان الربيع العربي إلى المشهد الدموي كان نتيجة فشل القوى الاستعمارية وأدواتها في احتواء هذه الثورات والالتفاف عليها، ونتيجة فشل عمليات التجميل التي أجريت لهذه الأنظمة المهترئة، فكان الحل الأخير الذي تتسلح به القوى الاستعمارية هو القمع والقتل والإبادة الذي يمارسه الحكام نيابة عن المستعمرين.

ثالثاً:عدم قدرة القوى الاستعمارية على حسم ملف الثورة السورية المستمرة منذ أكثر من أربع سنوات. والثورة السورية شاهد قائم على تخبط القوى الغربية الاستعمارية وارتجالها الخطة تلو الأخرى جراء فشلها الذريع، وهي شاهد كذلك على مدى إصرار الأمة على الانعتاق من ربقة المستعمرين واستعادة سلطانها.

إن الدماء التي تراق في بلدان الربيع العربي هي ثمن التغيير، وهي تتعاظم جراء التكالب الاستعماري الهستيري الذي يخشى تحرر الأمة الذي سيقود لإنهاء نفوذهم من المنطقة والعالم ويردهم خائبين.

إن على الأمة وهي تعيش هذا المخاض العسير، أن تدرك بأن القوى الاستعمارية ستمكر بها ولن تستسلم للهزيمة بكل سهولة، وستستخدم كل أدواتها دون أي قيم فهي عديمة القيم والأخلاق، وستسعى بكل ما أوتيت من قوة للحيلولة دون أن تثمر هذه الثورات ثمرة طيبة تحقق التغيير الحقيقي وتعيد للأمة سلطانها، لذا فعليها عدة واجبات من أهمها:

أولاً: أن تدرك أن التغيير لا يكون إلا بتبني نظام شامل للحياة قائم على أساس عقدي يعيد صياغة أنظمة الحياة من جديد، ولا يتوفر لها ذلك إلا بالإسلام، فعليها أن تعتصم بحبل ربها وأمره وتخلص له النية والمسعى، وتلتف حول مشروع إقامة الخلافة على منهاج النبوة، مشروع الأمة النهضوي الحضاري، وأن تلتف حول روّادها من الساعين المخلصين لتحقيق هذا المشروع في أرض الواقع.

ثانياً: أن تحذر القوى الاستعمارية ولا تنخدع بمخططاتها أياً كان شكلها أو مسماها، وأن لا تركن إلى أدواتها من الحكام والأنظمة العميلة والمؤسسات الأممية الاستعمارية، فالركون إلى هؤلاء يصيبها في مقتل، والارتهان لمساعداتهم المالية الملوثة ضياع للدين والدنيا.

إن على الأمة أن تمضي في ثورتها فلا مجال أمامها للتراجع، ولتغذّ الخطا نحو عودتها خير أمة أخرجت للناس، فتسقط الأنظمة العميلة، وتنصر العاملين لاستئناف الحياة الإسلامية لإقامة الخلافة على منهاج النبوة، الخلافة التي تطبق الإسلام وتحكم بالعدل والميزان وتعيد رسم الموقف الدولي، فتنشر الخير للبشرية وتطرد القوى الاستعمارية من بلادنا والعالم شر طردة، وبذلك وحده لا تذهب التضحيات الجسام التي بذلت سدى بل تتوج بنصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين.

29-1-2015

 

*عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة-فلسطين